تفسير قوله تعالى: (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)
قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٤ - ٣٥].
اتصلت هذه الآية بالكلمة السابقة اتصال المعنى الواحد واتصال الآية الواحدة وإن كانتا آيتين، قال تعالى: ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ﴾ [الحج: ٣٤] فكأنه قيل: ومن المخبتون؟ فقال: ﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ﴾ [الحج: ٣٥] أي: إذا ذكر الله وقدر وعظم وذكر: بتلاوة كتابه، وقراءة سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وبهدي سنة من أرسله، وجلت القلوب وخافت من عذاب الله ونقمته، فإن عصت هذه الروح، وخرجت عن الطاعة، وقلدت الكفار والمنافقين خافت ألا تقبل طاعتها وألا ترحم يوم القيامة، وخافت أن تكون عبادتها قد دخلها شيء من الرياء وعدم الإخلاص، فتجدها تعبد الله وهي تخشى وتخاف ألا تقبل عبادتها وإخلاصها، وتخاف ألا يكون ذلك خالصاً لوجه الله، وألا تكون تلك العبادة تامة الشروط كما شرطها ودعا إليها رسول الله صلوات الله وسلامه عليه.
والصبر ذكر عشرات المرات في كتاب الله، وخصصت به سورة، وهي قوله تعالى: ﴿وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ [العصر: ١ - ٣].
ولا بد من الصبر على لأواء الحياة، وعلى ما يعرض للإنسان من مرض أو فقر أو حاجة، وعلى ما يصيبه من بلايا الدنيا في جسده ونفسه، وعلى ما يعرض له من ابتلاء من الله؛ ليختبر صدقه من كذبه، وإيمانه وإخلاصه من عدمها.
قال تعالى: ﴿وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ﴾ [الحج: ٣٥] أي: يصبرون ولا يترددون ولا يشتكون، فهم صابرون على ما أصابهم الله به، مستشعرون الأجر منه، وما ذكر أيوب في سورة الأنبياء -السورة السابقة- إلا ليكون المثال الكامل الوافي لكل من أصيب في هذه الدنيا، وقد كانت العاقبة له، والعاقبة للمتقين على أي حال: رسلاً وأنبياء وأتباع الرسل والأنبياء، والمخبتون من تمام صفتهم أنهم الذين يخشون الله، ويصبرون على ما أصابهم، ويسألون الله أن يوفقهم.
قال تعالى: ﴿وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ﴾ [النساء: ١٦٢]، وإقامة الصلاة هي الإتيان بها بأركانها وبشرائطها وبفرائضها وبسننها خالصة لله، لا ينظر لأحد معه فيها، ومن هنا يقول عليه الصلاة والسلام: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)، فالسجود عبادة لا تكون إلا لله، والركوع عبادة لا تكون إلا لله، فهم راكعون وساجدون، مكبرون وذاكرون، ويكون ذلك لله فقط.
وإقامة الصلاة تشمل الصلاة في أوقاتها، والطمأنينة فيها، والقيام بأركانها: من تكبير وقيام وتلاوة وتسبيح وتعظيم وتكبير في جميع الحركات وتسليم عند النهاية، وإقامتها في أوقاتها، واستقبال الكعبة، والتطهر لها من تطهير المكان والأعضاء والملابس، فيتطهر حساً ومعنى، يتطهر حساً من الأوساخ والنجاسات إن كانت على بدنه أو في مكان صلاته، ويتطهر معنىً بالوضوء أو بالغسل إن كان هناك داع للغسل.
والمخبتون: من خشوا الله في العبادة ولم يخشوا سواه، ومن خشوا ألا تقبل وأن يضرب بها وجوههم، ومن صبروا على اللأواء وأتعاب الحياة في البدن والنفس، وفي الرزق والحياة، ومن أقاموا الصلوات الخمس في أوقاتها بشرائطها وبأركانها وبواجباتها وبسننها، ومن تصدقوا لله مما رزقهم الله.
قال تعالى: ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٥]، والنفقة تكون واجبة على العيال، وصدقة على المحتاجين والفقراء، وزكاة واجبة على من أمر الله تعالى من الأصناف الثمانية، وصلة للأرحام، واستجابة للسائل.
وقد وصف الله المؤمنين فقال: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ﴾ [المعارج: ٢٤]، فالمحروم يعطيه من حق الله زكاة وصدقة، والسائل له حق ولو جاء على فرس، والأرحام لهم حق الصلة وحق الاتصال بالمال والزيارة والكلمة الطيبة، والأصناف الثمانية لهم زكاة واجبة، والآية شملت كل ذلك.
﴿وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٥] فهم ينفقون من مال الله لا من مال أتوا به ولا من مال خلقوه، وليس لهم ذلك، هذا تفسير المخبتين، ﴿وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ * الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ [الحج: ٣٤ - ٣٥]، فلا يكون مخبتاً إلا بهذه الصفات الأربع: صفة الخشية عند ذكر الله.
وصفة الصبر على بلاء الله.
وصفة إقامة الصلاة والمحافظة عليها دائماً.
وصفة الإنفاق من مال الله الذي أعطاه الله إياه، نفقة على العيال، وصلة للأرحام، وصدقة على الفقراء والسائلين، وزكاة واجبة لمن ذكر الله من أصحاب الأصناف الثمانية.


الصفحة التالية
Icon