تفسير قوله تعالى: (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا)
قال الله عزت قدرته: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩].
سبق هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحج: ٣٨]، هذه الآية التي مضى ذكرها وبيانها فيها دفاع الله عن المؤمنين، فقد أذن الله لهم أن يقاتلوا وينتقموا لدينهم ولأنفسهم ولنبيهم، وأن يقاتلوا الذين ظلموهم وأخرجوهم بغير حق من ديارهم، وصدوهم عن سبيل الله وعن الإسلام، هذا من جملة دفاع الله عن المؤمنين، فأذن لهم، أي: أقرهم وأعلمهم بأن لهم الحق في الجهاد والكفاح والدفاع، فقد كانوا يعذبون في مكة المكرمة من قبل كفارها بأنواع من العذاب والصد والقتال، لماذا يسلمون؟ ولماذا يدعون إلى ترك عبادة الأصنام وكسر الأوثان، وعبادة الله وحده؟ فكانوا يستأذنون رسول الله ﷺ ليقاتلوا ويقاوموا ويحاربوا، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام لم يأذن لهم، وحكمة ذلك أن المسلمين كانوا قلة والمشركين بالآلاف، إذاً: تكون النتيجة قتل هؤلاء المستضعفين واستئصالهم.
ومن الحكمة أن يكون الإسلام قد انتشر بين القوم بالدليل والبرهان والحجة، فيكون قد تم ذلك دون حرب ولا قتال، لكي لا يقول عدو للإسلام يوماً: انتشر الإسلام بالسيف، ومع ذلك قالوا هذا، فالإسلام عاش في مكة في أيامه الأولى اثني عشر عاماً بالدليل العقلي والبرهان العملي على أن الإسلام حق جاء من عند الله، وأن محمداً كان رسولاً نبياً، وأنه أرسل للناس كافة صلوات الله وسلامه عليه، ولكن عندما بالغ كفار مكة في الحرب والمقاومة والصد عن سبيل الله، وأصبح للمسلمين موطئ قدم في المدينة، إذ أصبحت المدينة دار إسلام، أذن الله للمسلمين، وقد أصبحوا جماعة لا بأس بها، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لن يغلب اثنا عشر ألفاً من قلة)، فقد بلغوا هذا العدد؛ لذلك فإن الحرب والقتال واجب، فهذه الآية أول آية نزلت في القتال والدفاع وفي حرب أعداء الله ورسوله، أذن لهم لأول مرة، وكانت تلك رغبتهم وأمنيتهم، فقد كانوا يلحون على رسول الله صلوات الله وسلامه عليه ليأذن لهم في قتال هؤلاء الكفرة الظالمين.
وبعد هذا أصبح القتال فرضاً واجباً كفائياً على المسلمين في جميع مشارق الأرض ومغاربها، إذا قام به البعض سقط عن الباقين، ولكنهم منذ سنوات أوقفوا هذه الشعيرة، وأوقفوا هذه العز، فأصبح جهادهم إما لدفاع عن وطن، أو دفاع عن قوم، أو دفاع عن مثل ومعان ما أنزل الله بها من سلطان.
وأما الجهاد لرفعة الإسلام، ولإعلاء كلمة المسلمين، وللدفاع عن المستضعفين من الرجال والنساء والولدان فقد ترك هذا، وما تركه مسلمون إلا وذلوا، وقد تم هذا وحدث، ولن يرفع الذل ما لم يعد المسلمون للجهاد في سبيل الله وإعلاء كلمته، وللدفاع عن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، والمسلمون اليوم يقاتلون في كل رقعة من رقاع الأرض ويخذلون، ولا يجدون مدافعاً عنهم لا بمال ولا بأرواح ولا بكلمة صارخة تعلن بين الأعداء والخصوم في مجالسهم الدولية العامة، وقديماً قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (ما حورب قوم في عقر دارهم إلا وذلوا).
فقال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩] أي: أذن الله جل جلاله وأقر ووافق وأعلم نبيه ليعلم المسلمين أنهم قد ظلموا بإخراجهم من ديارهم وبقتالهم ظلماً وعدواناً، قوتلوا لا لذنب قدموه، ولا لجريمة سلفت منهم، وإنما قوتلوا وأخرجوا من ديارهم؛ لأنهم قالوا: ربنا الله.
إذاً: فالقتال شرع يوم أن نزلت فيه أول آية في هذه السورة الكريمة سورة الحج، وكانت دفاعاً لإزالة الظلم ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وقد أجبر هؤلاء المؤمنون على الخروج كما أجبر النبي الكريم صلوات الله وسلامه عليه بعد تقتيل وحرب وتعذيب واضطهاد، وبعد مؤامرة متواصلة متصلة لتصفية الإسلام والتخلص من نبينا صلوات الله وسلامه عليه.
عند ذلك أذن الله له بالهجرة وللمؤمنين معه، وكانوا قبل ذلك بين مخف إسلامه في دار الأرقم، وبين مهاجر إلى أرض الحبشة، وبين معذب إلى أن قتلت سمية أم عمار وزوج ياسر؛ لأنها قالت: ربي الله، وقالت: إن محمداً رسول الله، قتلها الظالم اللعين أبو جهل، وقد لعنه الله وقتله شر قتلة في غزوة بدر، مع أمثاله من الظالمين الكافرين أعداء الله والإسلام.
فالله أذن للمسلمين في أول آية بالقتال بأنهم ظلموا واضطهدوا، وحوربوا ظلماً وعدواناً، وما أوذوا وحوربوا إلا لأن الله هداهم للإسلام وأمرهم به، وأرسل لهم نبياً من أنفسهم، يعرفون أبوته وأمومته، ويعرفون أرضه وعشيرته صلى الله عليه وسلم، آمنوا به امتثالاً لأمر الله، وعملوا بدينه امتثالاً لطاعة الله، وامتثالاً لرسوله الذين صدقوه بما أتى به من معجزات باهرات، وأدلة واضحات.
قال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩] أقسم الله جل جلاله وأكد القسم باللام الموطئة للقسم، وبـ (إن) المؤكدة، بأنه سينصرهم، وأنه قادر على نصرهم، وأن الكفار الظالمين أذل من أن يغلبوا جند الله المؤمن، أو أن يقهروا رسل الله وأنبياءه، وقد فعل الله فنصر محمداً صلى الله عليه وسلم، ونصر دينه ونصر المسلمين، وشكراً لله تعالى على نعمائه وآلائه.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ [الحج: ٤٠] وهذا هو السبب الثاني للإذن بالقتال، فهم ظلموا في حربهم وفي العدوان عليهم، ثم ظلموا بإخراجهم من ديارهم، مساقط رءوسهم وبلدة آبائهم وأجدادهم، وبلدة نبيهم التي فيها ولد، وعليه فيها نزل الوحي صلى الله عليه وسلم، أخرجوهم من أرضهم من بين عشيرتهم وأولادهم وأرزاقهم، تركوا مكة مضطرين مقهورين على ذلك، إلى يثرب، فطابت يثرب بالهجرة النبوية فأصبحت طابة وطيبة، وأصبحت المدينة المنورة بالإسلام وبالدفاع عنه، وبكونها مأوى رسول الله ﷺ ودار هجرته، وبكونها أصبحت دار الإسلام، وقاعدة لحرب أعداء الله في داخل جزيرة العرب وخارجها.
قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا﴾ [الحج: ٤٠]، بدل من الذين في قوله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ [الحج: ٣٩]، و ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [الحج: ٤٠] هم محمد سيد البشر صلوات الله وسلامه عليه، والمهاجرون ممن آمنوا به في مكة وهاجروا معه، ومن هاجر قبلهم إلى أرض الحبشة، فقوله تعالى: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٤٠] أي: لأن ذنبهم وجريرتهم كونهم خرجوا عن دين هؤلاء المشركين من الشرك بالله، وعبادة الأوثان والأصنام وظلم المسكين، وأكل مال الفقير، فجريمة هؤلاء هي من النوع التي يقال فيها: عذر أقبح من ذنب.
رمتني بدائها ثم انسلت فهؤلاء اعتبروا دين الله وتوحيد الله، وعبادة الله جريمة استحق عندهم من قام بها أن يضطهد، وأن يجرم، وأن يخرج من داره، وأن يقاتل بأنواع القتال.
وقوله: ﴿إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: ٤٠] استنثاء منقطع، أي: كانت جريمتهم أنهم قالوا ربنا الله، لا عيسى ولا مريم ولا عزير ولا العجل، ولا مناة ولا هبل من الأصنام التي لا تنفع نفسها ولا تضر فضلاً عن أن تنفع عابديها دون الله، فكان القتال قد أذن به لثلاث معان: أذن به لرفع الظلم، وأذن به للخروج من الأوطان، وأذن به للدفاع عن لا إله إلا الله وعن الإسلام والمسلمين، وعندما اجتمعت هذه المثل الثلاثة العليا أذن الله بالقتال والدفاع والجهاد، فقاتلوا وجاهدوا، وكانت الحرب يوماً لهم ويوماً عليهم، وكانت العاقبة للمتقين المؤمنين، ونصر الله عبده، وأنجز وعده، وهزم الأحزاب وحده، كما كان النشيد النبوي عند فتح مكة، والنبي ﷺ على رءوس المجاهدين المسلمين ينشد هذا النشيد مطأطئ الرأس؛ شكراً لله، وعبادة وخضوعاً له.
قال تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ [الحج: ٤٠].
وهكذا أذن الله بالقتال للأمم السابقة؛ دفاعاً عن المعبد، ودفاعاً عن الدين، ودفاعاً عن العقيدة، أذن لهم بالقتال فجاهدوا بهذه المعاني؛ رفعاً للظلم، ودفاعاً عن الأوطان والعقائد، وكان هذا في معابد الأديان السابقة، وكان كذلك عند الصابئين، وهو ما عبر الله عن معابدهم في ذلك.
والصوامع: هنا جمع صومعة، وهي معبد الصابئين في أيامهم.
قوله: ﴿وَبِيَعٌ﴾ [الحج: ٤٠] هي معابد اليهود في أيامهم.
وقوله: ﴿وَصَلَوَاتٌ﴾ [الحج: ٤٠] أي: الكنائس، وهي معابد النصارى في أيامهم.
والمساجد معابد المسلمين.
فمضمون هذه الآية كما فهم جمهور المفسرين أن الله قد أذن في سابق الأزمان والأيام للرسل وأتباعهم أن يجاهدوا ويقاتلوا الكفار والمشركين؛ دفاعاً عن العبادة والمعبد، والله ما خلق العباد إلا لعبادته، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦]، فلولا أن الله دافع عن المؤمنين بجهادهم للكافرين حتى قتلوا وذلوا ولقوا مصارعهم، وانتصر الإسلام، وحفظت دور العبادة من صلوات وبيع وصوامع ومساجد، لهدمت هذه المعابد كلها، ولانتصر الشرك، ولم يبق في أرض الله شبر لعبادة مؤمن موحد يقول: ربي الله، وله أسجد وأركع، وله محياي ومماتي إلى يوم الدين.
فالجهاد شرعه الله لنصر الإسلام والمسلمين، كما جاهد السابقون دفاعاً عن معابدهم، وكما جاهد الصابئون دفاعاً عن صلواتهم ومعابدهم، وكما قاتل اليهود في أيامهم دفاعاً عن بيعهم، وكما قاتل النصارى في أيامهم دفاعاً عن كنائسهم وصلواتهم، وكما دافع ويدافع ويجب أن يستمر ذلك ويستبسل المسلمون في الدفاع عن مساجدهم؛ لتبقى كلمة الله


الصفحة التالية
Icon