تفسير قوله تعالى: (وإن يكذبوك فقد كذبت قبلهم قوم نوح)
قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ * وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [الحج: ٤٢ - ٤٤].
يسلي الله جل جلاله ويعزي نبينا عليه الصلاة والسلام، ويدعوه إلى الصبر، فإن العاقبة للصابرين، وإن النصر في العاقبة للمؤمنين ولرسل الله، يقول له: ((وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ)) أي: إن كذبك قومك، وأنكروا رسالتك، وأنكروا كون القرآن منزلاً عليك من ربك، وأنه كلام الله، فلست مفرداً بذلك، ولم تكن بدعاً من بين الرسل، فقوله: ((فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ)) أي: كُذِّب قبل قومك، وقبل أن يرسل إليك أقوام من الأمم السابقة؛ ابتداء من قوم نوح.
قال تعالى: ((قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ)) فكذب قوم نوح، وكذب عاد نبيهم هوداً، وكذب ثمود نبيهم صالحاً، وكذب قوم إبراهيم إبراهيم، وكذب قوم لوط لوطاً، وكذب أصحاب مدين شعيباً، وكذب فرعون وقومه موسى عليه السلام.
قال تعالى: ((وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ)) فالله يقول: إني أملي لقوم وأؤخرهم، وأعطيهم فرصة؛ لعلهم يرجعون ويئوبون ويقولون: ربنا الله، أو لعلهم يعيشون فيخرج الله من أصلابهم مؤمنين مصدقين موحدين لا كآبائهم مشركين، فهؤلاء أمليت لهم، وقد كذبوا أنبياءهم قبلك؛ كذبوا نوحاً وهوداً وصالحاً، وكذبوا إبراهيم وموسى، فهؤلاء الأقوام كذبوا الرسل الكرام قبلك، وصنعوا صنيع قومك حيث كذبوك.
فقوله تعالى: ((فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ)) أي: أخرتهم وأمليت لهم زمناً وأعطيتهم مهلة؛ لتقوم الحجة البالغة عليهم، ولعلهم يوماً يتدبرون بعقولهم، ويسمعون الحق بآذانهم، ويعون الصحيح من الباطل بقلوبهم، ولعلهم يقولون: ربنا الله.
قال تعالى: ((ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ)) أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، أرسل الطوفان على قوم نوح، وأرسل الصواعق والرياح والعواصف على أقوام آخرين، بل وأرسل عليهم أضعف الحشرات؛ إذ أرسل البعوض على قوم نمرود الذين عذبوا إبراهيم وحرقوه والله لم يرد إحراقه، وأرسل على قوم لوط الصواعق من السماء، وجعل الأرض عاليها سافلها؛ لفعلتهم الشنيعة، مع تكذيبهم لرسولهم، وأغرق آل فرعون، فقد كذبوا موسى وأخاه هارون، ولم يؤمنوا بما جاءا به من معجزات وآيات، وأصروا على الكفران والجحود، فأخذهم الله إليه أخذ عزيز مقتدر، وكذلك يا محمد! اصبر وتمهل حتى تكون العاقبة لك كما كانت العاقبة للأنبياء قبلك، فسنعذب من يبقى من قومك، ممن أرسلت إليهم رسولاً وستكون العاقبة عليهم بتعذيبهم والمكر بهم وسحقهم وتدميرهم، وقد فعل ربنا جل جلاله؛ إذ نصر محمداً على قومه صلوات الله وسلامه عليه، ونصره على جزيرة العرب، ونصر أتباعه على فارس والروم والبربر، ونشر دينه في مشارق الأرض ومغاربها؛ وخلال خمسين عاماً انتشر دين الإسلام شرقاً إلى أرض الصين، وغرباً إلى بلاد فرنسا وأسبانيا في عمق أوروبا وما بينهما.
ولذلك يعزي الله جل جلاله نبيه ليصبر ويتمهل، ويخبره أن النصر له في النهاية، وأن العاقبة بالسوء والتدمير على من كذبوه، وقد فعل جل جلاله وصدق وعده، وهنا قال عليه الصلاة والسلام وهو يدخل مكة منتصراً مظفراً: (الحمد الذي أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) دخل مكة وهو على راحلة، ولم يركب جواداً ولا فرساً ليتراقص به تراقص العزيز المنصور المظفر، بل دخل يركب ناقة في مشيها الهون، وهو مطأطئ رأسه تواضعاً لله، وخنوعاً لعزه وجلاله، ولم ينسب لنفسه شيئاً، وقال عن ربه: (وهزم الأحزاب وحده)، فالله وحده جل جلاله هو الذي نصر عبده محمداً ودينه الإسلام وأتباعه المؤمنين، وأذل الكافرين وسحقهم ودمرهم، وأنجز ما كان قد وعد به نبينا عليه الصلاة والسلام في غير آية من آيات كتاب الله، وغير سورة من سور القرآن الكريم، ﴿وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ﴾ [التوبة: ١١١] لا أحد جل جلاله وعلا مقامه.
قال تعالى: ﴿فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ [الحج: ٤٤].
أي: أخذهم أخذ عزيز مقتدر، وجعلهم عبرة للمعتبر وجعلهم قصصاً تتلى لمن يأتي بعدهم؛ لتدبر آيات الله ووعده الحق، فيبادر بالعمل الصالح في حياته قبل مماته، فيؤمن ويقول: ربي الله، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يقول تعالى: ﴿فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ﴾ [الحج: ٤٤] يسأل موبخاً ومقرعاً لهؤلاء الكفار، وداعياً للاعتبار للمؤمنين المذبذبين، وسائلاً للمؤمنين الثابتين ثبوتاً ورسوخاً، ((فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ)) أي: كيف كان إنكاري على هؤلاء الذين طالما كذبوا وكفروا وآذوا رسل الله وأتباع رسل الله من الموحدين.
فكيف كان نكيري؟ كان بالتدمير وبالتخريب، وكان بالموت صعقة ودهدهة وغرقاً، وبرفع الأرض وجعل عاليها سافلها، ومع هذا غضب الله ولعنته والخلود في النار أبد الآبدين.


الصفحة التالية
Icon