الهجرة صورها وفضلها
والهجرة -أي: هجرة ديار الكفر والفسق والظلم- هي كذلك، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما هاجر من مكة إلى المدينة كان مهاجراً في سبيل الله منذ خرج من بيته إلى أن مر على صاحبه أبي بكر، إلى أن اختفى في جبل ثور، إلى أن وصل للمدينة المنورة، إلى أن لقي ربه صلى الله عليه وعلى آله وسلم.
ومن هنا عند فتح مكة ظن الأنصار أنه ﷺ سيبقى في بلدته ومسقط رأسه ومدينة عشيرته، وإذا به يبقى مهاجراً إلى أن لقي ربه، وتبعه في ذلك أصحابه الذين هاجروا معه، والذين لقبوا من عملهم بالمهاجرين، فكان الذين هجروا دار الكفر إذ ذاك وهاجروا منها يسمون المهاجرين، ومن أسلم في بلدته من الأوس والخزرج في المدينة المنورة يسمى أنصارياً، والهجرة لا تنقطع إلى يوم القيامة، وهي هجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام، وهجرة من بلاد التقوى والصلاح رحلة إلى ديار التقوى والصلاح، ومن ديار الفسق والظلم والمعصية إلى ديار الدين والاستقامة.
وهكذا وعد الله تعالى الذي يهاجر في سبيله إما بغضاً للكفر والمعصية، وإما للقتال بالسيف أو بالقلم أو باللسان أو بالمال، أو بأي نوع من أنواع القتال، إذا مات ولو مات ميتة طبيعية فميتته وقتلته شهادة، ولكن الشهادة تكون لكل من تغرب عن أهله في سبيل الله، لا يريد بذلك إلا وجه الله، فالأمر يرجع إلى النية.
لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه).
ولذلك فالأمور جميعاً بالنية، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات، فمن هاجر إلى لله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) فمن هاجر إلى الله والدار الآخرة وترك الأهل والأوطان والأموال لأجل الله، فهذا هو الذي ثبتت له هجرته وصدقت نيته، فإن قتل أو مات فكل ذلك سواء، فسيرزقهم الله الرزق الحسن، والرزق الحسن هو نعيم الجنة الخالد.
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾ [الحج: ٥٨].
أي: الله جلا جلاله هو خير من يرزقك، وإن كان غيره لا يسمى رازقاً ولا معطياً ولا مضيفاً إلا مجازاً، وإلا فالرزق والعطاء الحق من الله، فهو الرزق الخالد الدائم، الذي فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ورزقه خير للإنسان من رزق أهله وحكامه والتجارة له، وخير من أرزاق الدنيا بكل أنواعها، وإن كان ذلك أيضاً يعتبر رزقاً من الله وكرماً وعطاءً منه، إن كان حلالاً نتيجة عرق جبين، ومن باب أولى إن كان رزقاً فيه هجرة صادقة، فيكون الرزق الخالد الدائم في الجنان، والله بذلك خير الرازقين والمكرمين جلا جلاله.
ثم قال تعالى: ﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [الحج: ٥٩].
رزق الله جلا جلاله يكون (بالمدخل الحسن) بالضم، أو (المدخل الحسن) بالفتح، وبكل ذلك قد قرئ في السبع.
والمدخل الحسن: هو ما تدخل إليه وترتاح له، وفيه ما يسرك ويقر عينك، وهل هناك مدخل أحسن من المدخل للجنة وللنعيم الدائم؟ والذي أعظمه رؤية وجه الله الكريم.
ذلك المدخل الذي يرضيهم فيه بما تقر له أعينهم، وتطيب له نفوسهم، بما يخلدون فيه الخلود الأبدي الدائم، وما ذلك إلا صفة لنعيم الجنة، ولرزق الله الخالد الذي في الجنة، والتي وصفها النبي ﷺ بقوله: (فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).
ثم قال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾ [الحج: ٥٩].
أي: إن الله لعليم بأعمالنا وبنياتنا، وعليم بمن هاجر لا يريد إلا الله ورسوله، وبمن كانت سفرته وهجرته في الحقيقة لزواج أو لمال أو لجاه أو لأي شيء يرجع لشئون الدنيا فقط.
ولذلك يعامل الله جلا جلاله العابد على نيته، فإن كانت نيته الهجرة فيجازى بما يجازى به المهاجرون، وإن كانت الدنيا فهو للدنيا: إن أصابها فذاك، وإن لم يصبها فقد خسر الدنيا والآخرة، وهذا فيما إذا تظاهر للناس بأنه خرج مهاجراً لله، وهو لم يهاجر إلا لدنيا يصيبها، ولكن الله مع ذلك على علمه هو حليم غفور رحيم، فحتى الذي هاجر لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها يغفر له حلماً منه ورحمة ورأفة جل جلاله إن غير نيته من الدنيا إلى النية الصالحة؛ نية الرغبة في الآخرة، والهجرة للخير في سبيل الله.
ولقد قال سفيان بن عيينة: طلبنا العلم لغير الله فأبى الله إلا أن يكون له، يقول سفيان ذلك عن نفسه، تعليماً وتربيه لغيره من الناس سيما طلاب العلم، فإن كنت طلبت العلم لتكون قاضياً، أو لتكون موظفاً أو حاكماً، أو ليقال عنك: عالم، أو ليكون معك كذا وكذا فإن كانت نيتك كذلك فتب إلى الله منها، وغيرها إلى نية صالحة، فتطلب العلم لتدعو الناس إلى الله على بصيرة، أو لتنصر الدين ولتكون خليفة من خلفاء الرسول ﷺ في نشر العلم.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: (العلماء ورثة الأنبياء) العلماء الذين يدعون الخلق إلى الله، ويعرفون للناس الحلال من الحرام، ليحرصوا على أن يكونوا حيث أمرهم ربهم، وحيث أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم، فيفعلون من الحسنات قدر طاقتهم، ويتركون المنكرات جميعاً، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا) فهذا هو الضابط فعلاً وتركاً، وإنما كان الفعل على قدر الاستطاعة؛ لأن الأعمال كثيرة، وطاقة البشر أضعف من ذلك، فالله أمرنا بالصلاة والوضوء بالماء، وبتلاوة القرآن، وباستقبال القبلة، فإن نحن عجزنا -جدلاً- عن معرفة القبلة لسبب ما، أو لم نستطع استعمال الماء أو فقدناه، أو مرضنا فلم نستطع الصلاة قياماً، فالله يقبل منا أن نصلي كما أمرنا في حال المرض، أي: أن نصلي جلوساً، فإن لم نستطع فعلى جنب، وإن لم نجد الماء نتيمم بالصعيد الطاهر، وهكذا.
وهكذا سائر الواجبات، أي: جعلها الله قدر جهدك، وما جعل عليك في الدين من حرج، فلم يأمرنا بما لم نستطع، ولم يكلفنا بما لا تعيه العقول.
وكما أنه عليم بأعمالنا وقدراتنا، فهو حليم بنا، فإذا نحن أسأنا النية أو العمل ثم استغفرنا فهو يغفر لمن تاب، والله غفور لمن يستغفره جلا جلاله وعلا مقامه.