تفسير قوله تعالى: (لكل أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه)
قال تعالى: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٦٧].
يقول جل جلاله: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا﴾ [الحج: ٦٧] أي لكل نبي أمة؛ إذ الوحي يكون للرسول وللنبي ولا يكون للأمة، ولكن الأمة تكون مجال دعوة هذا النبي ومجال شريعته وأمره ونهيه.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: ٦٧] المنسك هو الشريعة والعقيدة والدين والدعوة، يخبرنا ربنا جل جلاله أنه جعل لكل أمة من الناس نبياً، وأنه أرسل إليهم رسولاً دعاهم إلى عبادة الله الواحد، وجعل لهم شريعة تخصهم: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا﴾ [المائدة: ٤٨].
أما الدعوة والعبادة فالكل جاء يدعو إلى عبادة الله الواحد لا شريك له، وبذلك أمر أنبياؤنا ورسلنا ليبلغونا ذلك عن الله، وكما قال المصطفى صلوات الله عليه وسلامه: (نحن معاشر الأنبياء أبناء علات، أبونا واحد وأمهاتنا شتى).
فدعوة الأنبياء دعوة واحدة؛ دعوة إلى الله الواحد الذي لا شريك له، وإلى عبادته وتوحيده، وأما الشرائع والمناسك وأنواع العبادات فلكل نبي ولكل أمة جعل الله شريعة خاصة بها وبه.
﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: ٦٧] أي: هم تابعوه وسالكوه، يلتزمون ويعملون بهذا المنسك وبهذه الشريعة، فقد أمروا بالتزامها والعمل بها، وهذا أمر من الله ورسوله.
وفسرت المناسك بالمواعد، بالأعياد، بالمواقع، ومنها مناسك الحج، فإن للحج مناسك تعرض في مكة وما يحيط بمكة، من طواف بالكعبة، ومن سعي بين الصفاء والمروة، ومن وقوف بعرفات، ومن مبيت بمزدلفة، ومن بيات ومقام بمنى ليلتين أو ثلاثاً، ومن إحرام وما إلى ذلك، وعلى هذا فسرت الآية: ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا﴾ [الحج: ٦٧] أي: معبداً وموعداً يتواعدون عليه لعبادة ربهم في أوقات مخصوصة، وأزمان معينة، وشهور معروفه، وليالي وأيام يعرفونها، كما نعرف مناسكنا: من صيام شهر في كل سنة، ومن صلوات خمس في اليوم والليلة، ومن المناسك التي سميت مناسك في الحج الذي فرضه الله على كل إنسان مرة في العمر، وانتدب إليه وسنه مرة كل خمس سنوات.
وعلى كلا المعنيين فإن المعنى قائم وصحيح وواقع، ﴿لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ﴾ [الحج: ٦٧] وأرسل لكل أمة نبياً بموعد، وبشريعة من الشرائع ألزموا بسلوكها وباتباعها وبالعمل بها.
قال تعالى: ﴿فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ﴾ [الحج: ٦٧] أي: لا تدع أهل الكتاب ومن هم على بقايا من أهل الكتاب، وقد بدلوا وغيروا، وقد نسخت أديانهم وشرائعهم، لا تدعهم ينازعونك، أي: يجادلونك في الحق بعد أن أرسل إليهم الحق الصريح، والدين الناسخ لبقية الأديان السابقة، والرسول الذي هو آخر الرسل والأنبياء، فلا شريعة بعد شريعته، ولا رسالة بعد رسالته، ولا نبي بعده ولا رسول، صلى الله عليه وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين.
فلا تنازعنهم، والنزاع يكون بين اثنين، بمعنى: لا تجادلهم، وإنما مرهم أمراً، وعلمهم تعليماً، وربهم تربية، وأخبرهم بنسخ ما مضى، وأنهم قد حرفوه وبدلوه وغيروه.
ونحن أولاء نرى أهل الكتاب السابقين قد بدلوا في توراتهم وفي زبورهم وفي إنجيلهم، وفي الشرائع التي أرسلت إليهم، وفيما يتعلق حتى بالعقيدة، فقد قذفوا الأنبياء، وقلوا من الأدب مع الله، وأشركوا معه غيره، وعبدوا عيسى ومريم، وعبدوا العزير والعجل، وجعلوا أنفسهم أبناء لله تعالى الله عن كفرتهم الصلعاء علواً كبيراً.
قال تعالى: ﴿فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ﴾ [الحج: ٦٧] أي: لا تدعهم ينازعونك ويجادلونك؛ لأنهم إن فعلوا سيفعلون بباطل، وعلى باطل، فليس لهم من الله برهان على ذلك، ولا دليل يمكن أن يجادلوك وينازعوك ويخالفوك به.
والنزاع يكون بين اثنين أو جماعتين، فكل يريد أن يشد الحبل لنفسه، وهنا كل يريد أن يقول: إن الحق معه، وإن الدين دينه، وإن الشريعة شريعته، مع أنك أرسلت إليهم وللناس جميعاً بشريعة مكان شريعتهم، فأنت الحق، وما جئت به الحق، والحق جل جلاله الذي صدر عنه ذلك، وأمر بالحق رسالة ورسولاً وشريعة.
﴿فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ﴾ [الحج: ٦٧].
أي: لا تبال بهم، ولا تهتم لهم، ولا تقبل جدالهم، فإن استفسروك للعلم وللمعرفة فافعل، وأما أن يجادلوك بأن ديننا كذا، وبأن كتابنا كذا فلا، وإنما علمهم الحق وعرفهم به، ولا تقبل نزاعهم ولا جدالهم، وادع إلى ربك كما أمرك ربك، ادع إلى توحيد ربك وعبادته والعمل بشريعته، وادع لامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وبين ذلك بما أمرت به من البيان في قولك وفعلك وإقرارك.
﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ﴾ [الحج: ٦٧] أي: إنك يا محمد! صاحب الحق، والمحق في الدعوة، والرسول المرسل بالحق.
(إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى) أي: لعلى هداية وطريق وشريعة ونور من ربك مستقيم لا اعوجاج فيه ولا أمت، ولا يقبل نزاعاً ولا جدلاً ولا خلافاً، وكل من حاول أن ينازعك، أو أن يجادلك، أو أن يجر النار لقرصه فهو مبطل ضال مضل، فلا تدعهم ينازعونك ولا يجادلونك، ولكن قم بالدعوة التي أمرك بها ربك من الدعوة إليه وإلى كتابه وإلى رسالته.