تفسير قوله تعالى: (قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب)
وإذا بالآخر يجيب: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ﴾ [الكهف: ٣٧] والمحاورة هي: المحادثة والمذاكرة وتبادل القول والكلام، ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ [الكهف: ٣٧] يا هذا! ما الذي دهاك وما الذي أصابك؟! أبعد أن أكرمك الله بالعافية وبهاتين الجنتين تكفر به وتقول: لا بعث ولا نشور، وتزداد تألهاً على الله وافتراءً عليه، كيف هذا، أكفرت بالله وهو الذي خلقك في الأصل من تراب؟! فقد خلق أباك الأول وجذرك الأول من تراب، ومنه خلق أبونا الأول آدم عليه السلام، ثم بعد ذلك سلسلك من نطفة من ماء مهين، أتتعاظم بهذا الماء المهين؟! أتتكبر على ربك وعلى خلقه وعلى عباده؟! أتشرك بالله وتكفر به؟! قال له صاحبه وهو يحاوره: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ﴾ [الكهف: ٣٧] وهو الله جل جلاله، ﴿مِنْ تُرَابٍ﴾ [الكهف: ٣٧] أصل آدم فهو مخلوق من تراب ثم من نطفة، ثم بعد التراب توالدنا أباً وأماً من نطفة من الأصلاب إلى الأرحام.
﴿ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾ [الكهف: ٣٧] أي: جعل لك جوارح: النظر، والكلام، والسمع، والبصر، وجعلك سوياً ولم يشوهك، ولم يعم منك البصر، ولم يصم منك الأذن، ولم يجعلك تمشي زحفاً، ولم يقعد حواسك، ولم يمرضك، أهذا جزاء النعمة؟! أهذا جزاء الله منك؟! لقد خلقك وأكرمك وسواك بشراً سوياً، وجعلك جميل التقاطيع والخلقة، ورزقك من خيراته، ومن أمواله، ومع ذلك تأبى إلا الشرك والكفر، وأنه لا بعث ولا نشور! ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٣٨]، (لكنا) بمعنى: لكن أنا، ودمجت في كلمة لالتقاء الساكنين فأصبح يُنطق بها كما رسمت في المصحف، وتأويل الكلام: لكن أنا الله هو ربي، فإن كان ربك الشيطان فأنا ربي الله، وإن كنت تنكر البعث فأنا أومن بالبعث وبما قاله الله وأتى به الأنبياء، هكذا تقدير الكلام.
﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي﴾ [الكهف: ٣٨] أي: أعترف بأنه خلقني من تراب، ثم من نطفة، ثم سواني رجلاً، ثم سيبعثني يوم القيامة ويجازيني على يقيني وعلى إيماني بما يجازي به المؤمنين.
﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٣٨] أي: معاذ الله أن أفعل فعلك، أو أصنع صنيعك، أو أن أشرك بربي أحداً من الخلق، فالله الخالق، والله الرازق، والله الباعث، وكل ما تقوله إفك وضلال، وهذا هو كلام الظالمين لأنفسهم، والمشركين بربهم.


الصفحة التالية
Icon