تفسير قوله تعالى: (ثم خلقنا النطفة علقة)
قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً﴾ [المؤمنون: ١٤].
ثم هذه النطفة التي يتشربها رحم الأنثى لمدة أربعين يوماً خلالها تتخلق وتتكون وتصبح علقة مستطيلة أشبه شيء بالعلقة المعروفة، وتصبح قطعة من ماء فقير، وتصبح أقرب للمضغة ولما تتكون بعد مضغة، بل تكون دماً عبيطاً تكون أشبه ما تكون بالعلقة التي هي معروفة من هوام الأرض، وبذلك سماها الله، فتبقى أربعين يوماً كذلك علقة ﴿ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً﴾ [المؤمنون: ١٤] وبعد أربعين يوماً من تخليق النطفة علقة، وأربعين يوماً علقة ثم تصبح بعد ذلك مضغة، أي: قطعة لحم بمقدار اللقمة التي يمكن أن تمضغ ويحملها الإنسان بيده لفمه، سميت مضغة لصغرها، ولكونها أقرب ما يكون إلى اللقمة في صغرها وحيزها، وهي قطعة لحم.
﴿فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا﴾ [المؤمنون: ١٤]، ثم ينقلها الله جل جلاله في الطور الرابع من قطعة لحم إلى عظام بلا لحم، فيبرز رأسها ويديها وعظامها: أضلاعها، وساقها، ويديها، ورجليها، فهي هيكل عظم أشبه ما يكون بهياكل العظام التي عليها الأطباء يتعلمون، وبها يشرحون.
قال تعالى: ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا﴾ [المؤمنون: ١٤]، هذه العظام التي هي في الطور الرابع تنتقل بعد أربعين يوماً إلى عظام قد كسيت لحماً كما يكسى بدن الإنسان ثياباً، وفي هذه الحالة تصبح هذه النطفة الأولى جنيناً كاملاً من عظم وعصب ولحم وروح، ﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] أي: انتقل من كونه جنيناً كاملاً في بطن أمه إلى وليد رضيع لا يكاد يستطيع أن يدفع عنه ذبابة ولا ناموساً، إلى طفل ينتقل من الرضاعة إلى الحبو، ثم إلى الوقوف، ثم إلى الطفولة، ثم إلى اليفوعة، ثم إلى مرحلة الشباب، ثم إلى الرجولة، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى الضعف الذي ابتدأ به ثم إلى الموت، وبعد ذلك إلى البعثة يوم القيامة.
وفي الصحيحين: صحيح البخاري ومسلم وفي مسند أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: حدثني الصادق المصدوق صلى الله عليه وعلى آله وسلم فقال: (إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم علقة مثل ذلك، ثم مضغة مثل ذلك، ثم يؤمر الملك بنفخ الروح فيه، ثم يؤمر بكتابة أربع كلمات: برزقه وعمله وأجله وشقي هو أم سعيد)، ويكون ذلك قبل قد كتب في اللوح المحفوظ، كما كتب كل الخلق ملكاً وجناً وإنساً وغير ذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام كما سبق أن روينا وقلنا في مجالس سابقة وبمناسبات عديدة من تفسير آي الله الكريم وسور القرآن العظيم، وهذا الذي قصه الله جل جلاله قبل١٤٠٠ عام على نبينا وعلينا هو ما أكده الطب قديماً وحديثاً، وتشريح الإنسان في جميع أطواره ومراحله، ومن هنا كان الإعجاز.
ويتساءل الكثيرون فيقولون: تقولون إن القرآن معجز ومن يدري هذا الإعجاز إلا العرب، فهو معجز بفصاحته، ومعجز ببلاغته، ومعجز بمفرداته، ومعجز بتعابيره وجمله، أي: أعجز البشر عن أن يأتوا بمثله ولو آية ولو سورة ولو أقل شيء منه، وقد تحدى الله الخلق والبشر منذ نزول القرآن في مكة والمدينة على سيد البشر وخاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه، وجئنا بعدهم بـ١٤٠٠ عام وهذا الإعجاز لا يزال قائماً على كثرة بلغاء العرب وفصحائهم شعراً ونثراً ونطقاً ودراسة وكلاماً، ومع ذلك لم يستطع أحد، ولو تواطأ أهل السماء والأرض من الملك والجن والإنس لما استطاعوا.
فأما الملك فلم يفعلوا، وأما الناس والجن فقد حاولوا كثيراً، فحاول مسيلمة الكذاب وحاول فلان وفلان من أدعياء الأدب وأدعياء الفصاحة فأتوا بالغث، وأتوا بغثاء القول، وأتوا بما يكاد الإنسان أن يقذف ما في بطنه بسبب سخافته.
وقد سألنا من لا يعرف العربية وهم كل سكان الأرض باستثناء العرب وبعض المسلمين، والعرب لا يتجاوزون ١٥٠ مليوناً والمسلمون يصلون إلى المليار، ولكن القليل منهم من يتكلم العربية، وأقل القليل من يتقنها ويحسنها نطقاً وكتابة، فقالوا: كيف ندرك نحن الإعجاز؟ قلنا: ليس الإعجاز باللفظ فقط، وليس الإعجاز باللغة فقط، وليس الإعجاز لنسق القرآن ونظمه فقط، ولكن القرآن معجز بلفظه ومعجز بمعناه، وهذا من ذاك، فما قصه الله علينا في قصة خلق الإنسان منذ كان تراباً إلى أن أصبح إنساناً سوياً، إلى أن تسلسل وتوالد، إلى أن أصبح ذكراً وأنثى وذريات هذا الخلق ما بين كل أربعين يوماً إلى أربعين يوماً هو من طور إلى طور، من طور الماء العادي يصب من صلب الرجل ومن ترائب المرأة، فيبقى الماءان في الرحم أربعين يوماً فينقلب نطفة، ثم أربعين يوماً علقة، ثم أربعين يوماً مضغة، ثم أربعين يوماً عظاماً، ثم يكسى بعد ذلك اللحم فيصبح بشراً سوياً صغيراً بجميع حواس الكبار، فتكون بما يناسبه في صغره وقلة جثته وصغر حواسه وخلاياه، وهكذا إلى أن يخرج للوجود طفلاً رضيعاً، إلى أن يصبح بشراً سوياً ذا ألوان مختلفة وذكاء مختلف ولسان مختلف ودين مختلف واعتبار مختلف، من خلق ذلك وسواه؟ إنه الله جل جلاله، وإذا اختل نظام بعض ذلك فمن الذي يصنعه؟! الطبيب يقول: أنا أرقع، وأما أن أوجد عضواً بعد تلفه أو أن أزرع روحاً خرجت، أو أن آتي بعين قد زالت فهذا لا يقدر عليه إلا خالق الإنسان إلا خالق الكون جل جلاله، والذين عرفوا بعد الآلاف من السنين نتيجة التجربة وتشريح الإنسان والطب المتتابع منذ الآلاف من السنين وإلى عصرنا إلى الأيام الأخيرة إلى عشرات السنين المتأخرة آمنوا بهذا لا على أن الله قال، ولكن على ما وصلوا إليه علماً وتجربة، وعندما وجدوا أن القرآن قد نطق بذلك مبيناً مفصلاً حسب أطواره وحسب ما يتقلب في بطن أمه من حال إلى حال إلى أن يخرج ذكراً سوياً، أدركهم العجب، وأما الإيمان فهداية وتوفيق، فمنهم من وفقه الله وهداه للدين الحق فوجد ذلك معجزة تدفعه للإيمان بالله، ومنهم من كان الران قد صعد على قلبه فما زاده ذلك إلا كفراً وما زاده إلا عناداً.
ففي دولة شيوعية تتقاسم مع غيرها السيطرة على البشر والأرض في عصرنا هذا حضر طبيب مسلم في أحد المؤتمرات التي تعقد عادة في الدول والشعوب، فوقف هذا بين مجتمع ملحد كافر بالله عدو لله ولرسله وللأديان فوقف يتكلم على خلق الإنسان، فتكلم طبياً واستمعوا إليه وكلهم أسماع وكلهم حاضرون بالسمع والبصر والنظر إلى أن انتهى، فبعد أن انتهى أتى بهذه الآية وأشباهها من كتاب الله فقال: لم آخذ أنا هذا بعلمي ولا دراستي ولا بالتشريح ولا بما قاله الأطباء، بل هذا العلم لم يزد عليه شيئاً، بل ولم يصل إلى حقيقته إلى الآن، والحقيقة كاملة هذه نطق بها ربنا، وأنزله في كتاب على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، فما كاد يذكر الدين والقرآن والإسلام ومحمد عليه الصلاة والسلام إلا والآخرون كمن أصابهم مس من الشيطان، فأخذوا يقولون له: يكفينا تخريفاً يكفينا رجعية، وعندما كان يتكلم بذلك من عند نفسه أخذوه وقبلوه وعدوه الذروة فيما وصل إليه علمه وبحثه.
وعندما نسب ذلك لربه وخالقه وعندما نسب ذلك للقرآن العظيم المنزل على نبينا عليه الصلاة والسلام إذا بأحقادهم وعداوتهم لله وكتبه ظهرت فيهم، وأخذوا يتخبطون تخبط من أصابه مس من الشيطان.
﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤]، والخلق الآخر هو هذا، فبعد هذه الأطوار وهو لا يزال في بطن أمه خرج للدنيا رضيعاً طفلاً صغيراً، ثم بعد ذلك توالت عليه الأيام وتتابعت وانتقل من طور إلى طور إلى أن أصبح رجلاً سوياً، ثم رجع لضعفه الأول إذا طال به السن وإلا فالكثير يذهب طفلاً أو يافعاً أو شاباً وهكذا والأعمار بيد الله، والخلق كله بيد الله لا شريك معه ولا معين جل جلاله وعلت قدرته وعزته.
﴿فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾ [المؤمنون: ١٤] أي: خلقاً متطوراً غير التطور الأول، وهو لا يزال جنيناً في بطن أمه، خلقاً آخر ونوعاً آخر مما يتصل عادة بالإنسان عندما يخرج لهذا الوجود من قوة وضعف، ومن ملك ورعية، ومن غنى وفقر، ومن ذكاء وبلاده، ومن بياض وسواد، ومن شرقية وغربية، ومن إسلام وكفر وهكذا.
فهذا الخلق الآخر يبقى متطوراً: لساناً وجسداً وفكراً وقوة وضعفاً إلى أن يذهب الكل بعد ذلك حيث شاء الله وأراد.
﴿فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ [المؤمنون: ١٤] تبارك الله وتعالى وجل، يستطيع ذلك غيره، ولا يفعل ذلك غيره، (أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) أحسن في لغة العرب يقولون عنها أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل تقتضي المشاركة والزيادة، ولكنها هنا على غير أصلها وحقيقتها، فمن الخالق غير الله ليكون الله أحسن خلقاً من غيره؟! ولكن الله هو الخالق المتفرد (أحسن الخالقين)، أي: حسن الخلق، بديع الخلق، عظيم الخلق، المنفرد بالخلق وحده، تبارك وتعالى وتعاظم جل جلاله وعلا سلطانه، وزعم بعض المفسرين فقال: (أحسن الخالقين) أي: أحسن المصورين، فبعض البشر صور حجراً أو صور شيئاً فالله أحسن الخالقين، وهذا كلام باطل من الأول؛ فهل صنع الحجر أو صنع الشجر أو رسم الحواس على ورق يعتبر تصويراً حتى نقول عنه خالق -أي: موجد- والله أحسن منه؟! لا وجود له ولا كيان، وهو إن صنع شيئاً لم يصنعه من نفسه، فلم يخلق ذبابة كما قال ربنا وضرب المثل متحدياً للخلق: ﴿لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ﴾ [الحج: ٧٣]، جل جلاله وعلا مقامه.
فالإنسان الذي يريد أن يصور يأتي إلى حجر خلقه الله، وإلى إنسان يرسم حواسه خلقه الله، وإلى حبة فيطحنها ويجعل منها حلوى وخبراً وما شاء الله خلق ذلك، فلم يصنع هو شيئاً وكيف مع هذا يقارن خلقه بخلق الله ويقال: