تفسير قوله تعالى: (وعليها وعلى الفلك تحملون)
قال الله تعالى: ﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢].
فنسافر ونقطع البراري والقفار والجبال والوهاد ومشارق الأرض ومغاربها، ولم تكن قد وجدت المراكب الجديدة من المراكب البخارية، والمراكب الخشبية، فما كان الركوب إلا على الإبل أو الدواب أو المشي على الرجل، ولذلك كانت الإبل تسمى سفن الصحراء، ولا نزال في حاجة إليها إلى الآن، فلا تزال تركب في كثير من الأراضي القاصية في الجبال وفي الوهاد وفي الصحاري حيث يصعب أن تذهب إلى هناك السيارات وما إليها، وخاصة في الأراضي التي ترابها ورملها يغور فيه من يمشي عليه، فقد يبتلع السيارة كلها، وهذا موجود معنا في المملكة هنا، ففي خلق الله عجائب حتى في التراب وأنواع الأرض وترابها.
ومن معجزات القرآن في هذا العصر أن الله تعالى يقول في كتابه: ﴿وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ﴾ [التكوير: ٤]، والعشار هي الإبل، وأصل العشار النوق الحوامل، ولكن أصبح بعد ذلك يطلق على الإبل كلها عشار.
وجميع المفسرين إلا قلة وهم معدودون على الأصابع ذكروا أن ذلك يوم القيامة، فهناك ستعطل الإبل عن الركوب، قالوا: وإذ ذاك ستقوم القيامة وتنتهي الدنيا، وفي تصورهم أن الإبل لا تعطل إلا إذا عطل الإنسان عن الرحلة وعن السفر، ولا يعطل الإنسان عن الرحلة والسفر إلا إذا فقد ومات، ونحن الآن نعيش وقد عطلت الإبل، فلا أذكر في حياتي أني ركبت إبلاً، وإنما ركبت مرة فرجة، في حين رواكب من سبقنا كانت جميعاً هي إبل، ولو سكنت هنا قديماً لركبت من مدينة إلى مكة في عشرة أيام واثني عشر يوماً كما ركب أبي وأمي، وكما ركب الكثيرون من الحاضرين والموجودين، ولكن اليوم الإبل عطلت، بل أنواع الدواب كلها، وكنا نرى البعض كانوا يخرجون من هنا في رجب على الحمير إلى المدينة المنورة، وقد أدركت هذا، وكان قريباً وأظنه لا يزال، وكنا نستغرب لهؤلاء الذين يركبون أياماً عدة ويتركون الطائرة في نصف ساعة ويتركون السيارة في بضع ساعات ما حملهم على أن يركبوا الحمير؟! قالوا: ولكن عادة لكن ذكرى لكن معنى يحترمونه، ولو رأينا الناس يسافرون في هذا العصر على الإبل لكان استغرابنا أعظم.
((وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ)) فقد عطلت ولم ينته الإنسان ولم تقم الساعة بعد، ولا نزال نرحل أكثر مما كنا بواسطة السيارات، وبواسطة البواخر البخارية، فأصبحت الدنيا صغيرة، وهكذا الدنيا تضيق يوماً عن يوم بسبب هذه المراكب وأنواعها وتشكلها.
وقال لنا نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن عيسى عندما ينزل من السماء سيحج على غير القلوص) يعني: سيحج ولكن ليس على الإبل وليس على البراق، فالنبوءة انتهت لعيسى مع قومه، فعندما سينزل للأرض فإنه سينزل إنساناً مؤمناً مسلماً من أتباع نبينا صلى الله عليه وسلم، وسيحج على غير القلوص؛ إشارة للطائرات، فيحج كما نحج وكما نتنقل اليوم في العالم على الطائرات، وقد مضى أن قلنا من قبل وفسرنا عندما ذكر الله أنواع المركوبات وقال: ﴿وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: ٨] أن عبد الله بن عباس قال: ما عطف الله أنواع المركوبات -أي: ما عطف الله بقوله: ((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)) على أنواع المركوبات- حتى كانت من جنسها.
((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ)) أي: من أنواع المركوبات: من الطائرات والسيارات والبواخر، وسنبقى نقول: ويخلق ما لا تعلمون في تفسير قوله تعالى: ((وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ))، ولم ذلك؟ لو قال النبي عليه الصلاة والسلام يوماً لإنسان: إن الحديد يوماً سيطير بقليل من الماء، وسيقطع الأجواء، وبساط سليمان سيصبح شيئاً عادياً للبشر، لقالوا: جن محمد صلى الله عليه وعلى آله، وقد قالوا عنه من غير شيء: مجنون صلى الله عليه، ومن هنا كان النبي يقول لنا عليه الصلاة والسلام: (خاطبوا الناس بما يفهمون)، فالإنسان إذا حاول أن يخاطب الصغار بلغة الكبار أفسدهم، ودفعهم ليقولوا عنه: مجنون، ولو خاطب الكبار بلغة الصغار لأضاعهم، ولقالوا: أستاذنا لا يزال يعيش معنا عيشة الأطفال، وهكذا لابد للإنسان أن يفرق بين وقت ووقت، وبين كبير وصغير، وبين رجل وأنثى.
﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢] أي: على الإبل منها، والفلك هي السفن التي تمشي على الماء سابحة عائمة، وقد كانت قديماً بالشراع، وكانت تسير بالرياح، ولذلك قال الشاعر: تجري الرياح بما لا تشتهي السفن وعندما نقرأ رحلات المغاربة والأندلسيين وقد اشتهروا بالرحلة والكتابة فيها دون أكثر بلاد الله، عندما نقرأ رحلة ابن جبير ورحلة ابن بطوطة وغيرهما من المغاربة والأندلسيين نجدهم جاءوا للحج على السفن الشراعية، وعندما كادوا يصلون إلى شواطئ الشام وقد رأوها، وكادوا يصلون إلى شواطئ مصر وقد رأوها إذا بريح معاكسه تعود بهم إلى المغرب، وهم يتغيظون ويكاد ينفجر دمهم، وقد يضيع عليهم الحج، ولو حاولوا أن يعاكسوا الريح لغرقت السفينة ولضاعوا البتة، وكثيراً ما وصلوا إلى الشواطئ فتأتي ريح معاكسة فيذهبون فيعودون مرتين وثلاثاً ولا ييأسون.
وكم من نعم الله علينا في هذا العصر، والكفر في هذا العصر أكثر من كفر أمس، وما زادت هذه النعم الإنسان إلا كفراً وإلا جحوداً، فاليوم نفطر في المغرب ونتغدى في الحجاز، ونتغدى في الحجاز ونتعشى في الهند، وهو بساط سليمان بحاله، ولا يزال الأمر في تطور، فالطيران كما رأيناه كان كالحمار مع الفرس، وحمر الطيران انتهت اليوم، وأصبحنا نطير في أعظم طائرات، وهذه الطائرات تتغير يوماً عن يوم، والطائرة الآن لا تزال تجرب، فتختصر السفر ما بين المشارق والمغارب إلى النصف إلى خمسين في المائة، فإذا كنا نصل إلى المغرب في ست ساعات بالطائرة، فستصل هذه في ثلاث ساعات، ولعلها ستنزل قريباً في خلال هذه الأيام هنا في المملكة، ولا يزال الناس يفكرون، وكما قال ربنا جل جلاله: ﴿سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ﴾ [فصلت: ٥٣]، فسيرينا الآيات والمعجزات والقدرة الإلهية في الكون وفي أنفسنا، وسنصنع هذا بأيدينا، ولكن من الذي رزقنا ذلك والقدرة عليه؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا جهالاً؟ ومن الذي رزقنا العلم وقد خرجنا فقراء من بطون أمهاتنا؟ ومن الذي أعطانا بعد ذلك العقل للفكر وللعمل؟ فنحن ليس إلا آلة في يد الله يصنع بها ما شاء، فهو الذي خلقها، وهو الذي يشغلها، فنحن عندما نزعم لأنفسنا الكثير الكثير نكون حمقى بعداء عن الحق والواقع، فالله هو الذي خلق لنا السمع والبصر والقدرة والفهم، وعندما ينسى الواحد منا هذا يزداد إغراقاً في الكفر والحمق والرعونة.
﴿وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٢] والفلك اليوم كذلك تطورت تطوراً عجيباً، فقد كانت هناك السفن الشراعية ولم ندركها ولم نركب عليها، وهي توجد اليوم لصيد الحيتان، وأما اليوم فتوجد الباخرة، وتسير الباخرة بقوة البخار، وأيضاً تسير بالبترول وأنواعه، فهذه تعاكس الريح وتذهب، وتعاكس الأمواج، يا ما ركبنا البواخر من ثلاثين سنة فكنا نكون تارة كالريشة في أعلى الموجة، وتارة تنزل الموجة، فنكون بين جبلين من الماء، ونقول: قد ذهبنا، ولكن البواخر مع ذلك ازدادت سعة وعظمة وكبراً، فهي أصبحت تقطع هذه البحار التي كانت تقطع في الشهر والشهرين تقطعها في يومين وثلاثة، ولا يزالون يخترعون، وهذا العقل الذي خلقه الله لا يزال الله يعلمه ما لم يعلم، ﴿وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ [النساء: ١١٣] قالها للأنبياء وهي لنا كذلك.