تفسير قوله تعالى: (فأوحينا إليه أن اصنع الفلك بأعيننا ووحينا)
قال الله تعالى: ﴿فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ﴾ [المؤمنون: ٢٧].
بعد أن انتظر نوح ما انتظر، وبعد أن تحمل من قومه ما تحمل، أخذ يطلب من ربه النصرة، ويطلبه الفوز، ويطلبه النقمة على أعدائه، فاستجاب الله له وأوحى إليه أن اصنع الفلك -وهي السفينة- لتحملك أنت ومن آمن معك، فذهب يشتغل بها سنوات، وقال: يا رب لست نجاراً، كيف أصنع السفينة وأنا لا أعرف؟ وزعموا أن نوحاً كان نجاراً بذلك، ولم يكن، وقالوا: إن السفن قبله لم تكن معروفة، ولا شيء يدل على حقيقة ذلك، والذي ترك قومه يستغربون ويتعجبون لا من صنع السفينة نفسها، ولكنه عندما كان يصنعها في أرض ليس فيها بحر ولا شاطئ، فأخذوا يتعجبون وهم يمرون عليه هازئين وضاحكين: أتصنع سفينة وأنت على البر والتراب؟! ماذا تصنع بها؟! فكانوا وهم يهزءون يقول لهم نوح: ونحن كذلك سنستهزئ بكم في العاقبة.
((فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ)) أي: أن اصنع السفينة، فأخذ يصنعها بتعليم الملائكة له، وأخذ لها الأخشاب من كل جانب، وزعموا أن ذلك كان من جبال لبنان ومن غير جبال لبنان إلى أن أتم صنعها وأصبحت قائمة، وجعل لها أبواباً من جوانبها ومن فوقها، وجعل لها طبقات: طبقة للآدميين من المؤمنين أتباعه، وطبقة للحيوانات المفترسة، وطبقة للحيوانات الدواجن، وطبقة للطيور وهكذا، فقال الله له: ((اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا)) أي: تحت نظرنا وعوننا وإرادتنا وقدرتنا وتعليمنا، وقد كان ذلك، (ووحينا) أي: بما أوحاه الله إليه من صنعها.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا)) إذا جاء أمر الله بالطوفان وتفجير العيون والأرض عيوناً ومياهاً ليغرق كل من عليها.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ)) تفجرت المياه من التنور، والتنور قيل: هو سطح الأرض، وقيل: أعالي التلال والجبال، وقيل: هو التنور كما يطلق عليه اليوم، وهو مكان طبخ الخبز، وكان ذلك أعجز في التعبير، كما قالوا: إن مواضع النار التي يخبز عليها الخبز -وهي شأنها أن تكون نيراناً متصلة- تفجرت منها الأنهار، على أن الأنهار تفجرت من البراكين وتفجرت من مختلف أقطار الأرض، وفار التنور فوراناً وتفجرت الأرض جبالاً ووهاداً، تفجرت عيوناً وأنهاراً، وتفجرت بحاراً حتى غرق الكل وذهب الكل، وتفصيل ذلك قد مضى في سورة هود وسيأتي في مناسباته كذلك.
((فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا)) أي: أدخل في الفلك، يقال: سلك وأسلك بمعنى واحد، أي: دخل وأدخل، ((فَاسْلُكْ فِيهَا)) فأدخل في السفينة من كل ((زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)) أي: من كل ذكر وأنثى على وجه الأرض، فخذ معك زوجين ذكراً وأنثى وأدخلهما معك في السفينة؛ لتعاد الحياة بعد الطوفان على هؤلاء الكافرين الجاحدين، ((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ)) أي: وخذ كذلك من آمن بك من أهلك ومن أتباعك، وقد قال الله عنه: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠].
((إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ)) إلا من سبق القول عليه بأنه يبقي على الكفر والشرك، فكفر الولد بأبيه، وكفرت الزوجة بزوجها نوح، وكان له أربعة أولاد أسلم ثلاثة منهم وأصر واحد على الكفر.
((فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) علم الله جل جلاله أن نوحاً ستأخذه الرأفة والرحمة بولده وهو يغرق، فيقول: ﴿رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ﴾ [هود: ٤٥]، وكما قال الله عنه فقد طلب إنقاذ ابنه على شركه وكفره، وقد طلب نوح من ولده أن يلحق به، فأخذ يقول: إن الجبل سيعصمني من الماء، فقال له أبوه: ﴿لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ﴾ [هود: ٤٣]، ولم يرحم الله إلا المؤمن الموحد التابع لنوح في نبوءته ورسالته.
((وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا)) أي: في الذين أشركوا وظلموا أنفسهم من هؤلاء سواء كانوا أهلاً، أو كانوا أتباعاً، أو على أي صفة كانت، ((إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ)) سبق في علم الله وإرادته بعد أن دعاهم نوح ألف سنة إلا خمسين عاماً، وبعد أن أمهلهم الله كل هذه القرون، فكانت إرادته التي لا ترد ولا يقف دونها خلق من خلقه أن يغرق كل هؤلاء، سواء كانوا أقارب أو أباعد لنوح، وكان ممن غرق زوجه وولده.
هكذا قال الله لنوح بعد أن نصره في دعوته، حيث قال لربه: ﴿رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا﴾ [نوح: ٢٦]، فقد دعا نوح بعد أن صبر ما صبر ألا يدع كافراً على الأرض يملك داراً أو يسكن داراً أو يعيش من أجل ذلك.
﴿إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا﴾ [نوح: ٢٧] أي: لا خير فيهم ولا في ذريتهم وسلالاتهم، فاستجاب الله دعوته وأغرق الكل وعاقب الكل في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أشد، وهذا قصه الله على قريش، وقصه الله على العرب، وقصه الله على من آمن بالإسلام وبنبي الإسلام بعد ذلك؛ لينبههم على أن الله عندما يأمر عباده بالإيمان به، وبتوحيده، وبعدم ظلم أنفسهم بالشرك وبالوثنية: أنه يمهلهم، ولكن الله يمهل ولا يهمل، فهو يصبر كما قال صلى الله عليه وسلم: (لا أحد أصبر من الله، فهو يرزقهم وهم ينسبون له الولد)، ولكن الله يمهل ولا يهمل، ولا يترك من عقابه مشركاً؛ إذ المشرك لا مغفرة له ولا تقبل له دعوى.


الصفحة التالية
Icon