تفسير قوله تعالى: (إن في ذلك لآيات وإن كنا لمبتلين)
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ﴾ [المؤمنون: ٣٠].
((إِنَّ فِي ذَلِكَ)) أي: في قصة نوح وكفر قومه به، وصبر نوح على قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، وتحدي قومه له بالشتائم والنقائص والكذب والافتراء، واتهامه بالجنون وبأنه يريد العلو والسيادة عليهم، ثم بكون الله أنقذ نوحاً واستجاب دعوته في نصرته، فعلمه صنع السفينة، وأغرق كل الظالمين المشركين، وعاد فجدد الدنيا من جديد بذرية جديدة، ومنازل جديدة، وخيرات جديدة بما نسي به ما كان قبل نوح، وما كان وقت المشركين من قومه.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ)) لعلامات على قدرة الله على كل شيء، فالله هو الذي يرزق، والله هو الذي يوقف رزقه، والله هو الذي يحيي وهو الذي يميت، والله هو الذي يأمر، فإذا عصي عاقب بالفناء والدمار وبالغرق وبما يريد جل جلاله.
((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) ولقد كنا مبتلين، أي: مختبرين وممتحنين هل إذا أرسلنا لهم رسولاً منهم يعرفونه ويؤمنون به؟ وهل سيؤمنون بالرسالة والمرسل بها أو سيبقون على شركهم ويصرون على ذلك؟ فالله ابتلاهم، فلم ينجح في الابتلاء والاختبار إلا قلة قليلة، وهم في أكثر ما قال المفسرون لم يتجاوزوا السبعين رجلاً وامرأة، وقال قوم: اثنا عشر أو ثلاثة عشر، أي: دون العشرين، فعلى العموم كما قال الله: ﴿وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [هود: ٤٠]، فقد آمنت به قلة، ولكن الله زكاها وزادها، وهم الذين لا يزالون الآن الذين يعدون بالملايين في مختلف أقطار الأرض وفي القارات الخمس، ولكنهم عادوا بعد أزمان إلى الشرك والكفر، ونسوا ما عاقب الله به أجدادهم من الغرق والخسف والتدمير من السماء والأرض.
((وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ)) وما كنا إلا مبتلين، وقد كنا مبتلين، أي: مختبرين ممتحنين، وبكل ذلك قد فسر، وكل ذلك تشمله الآية ولفظها.
قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون: ٣١] يذكر الله جل جلاله أنه بعد دمار قوم نوح بالغرق وبعد قوم نوح الذين أنقذوا بآبائهم الذين آمنوا انتهوا كذلك وذهبوا في أمس الدابر، وبادوا مع من بادوا، أنشأ الله بعدهم قوماً آخرين، ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ﴾ [المؤمنون: ٣١] ثم أنشأ الله بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وعاشوا ما قدر لهم ثم ماتوا، هؤلاء بعد موت نوح أرسل الله إليهم كذلك نبياً رسولاً، وقد أشركوا أيضاً وكفروا، وقد نسوا إفضال الله على آبائهم من قبل كما نسي قوم نوح إفضال الله على أجدادهم من قوم إدريس وقوم آدم الأولين.
((ثُمَّ أَنشَأْنَا)) وابتكرنا وأحدثنا، ((ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ)) أي: من بعد هؤلاء الذين أنقذوا من الغرق وماتوا مع من مات وبادوا مع من باد، أنشأ الله قرناً آخر، والقرن يطلق على العدد من السنين وهي مائة عام، ويطلق على الأمة من الناس.


الصفحة التالية
Icon