تفسير قوله تعالى: (وجعلنا ابن مريم وأمه آية)
قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ﴾ [المؤمنون: ٥٠].
ثم لخص الله جل جلاله أيضاً لنا قصة مريم وقصة ابنها عيسى، وأنه جعلهما آيتين معجزتين يدلان على قدرته وعلى عظيم إرادته، وأنه يفعل ما شاء كيف شاء جل جلاله وعز ومقامه، وقد مضت القصة كذلك مفصلة في غير ما سورة، كما أرسل الله موسى وهارون إلى فرعون وملئه وإلى بني إسرائيل، وكذلك جعل في الكون للنصارى وغير النصارى، لبني إسرائيل وغير بني إسرائيل، جعل ابن مريم وأمه آية.
وما هي هذه الآية؟ العادة بعد آدم وحواء أن يولد الرجل من نطفة تختلط من ماء الرجل من صلبه، وماء المرأة من صدرها، فيختلط ذلك فينشأ عنه بشر سوي، فخلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم سواه رجلاً، فخلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من رجل بلا أم، وذلك من ضلع آدم، ثم بعد ذلك خلق عيسى من أم بلا أب، والقادر على خلق الإنسان من تراب هو قادر على أن يخلقه من أم بلا أب، كما خلق آدم بلا أبوين وحواء بلا أم خلق بعد ذلك عيسى ابن مريم بلا أب، خلقه من نفخة أمر بها جبريل رسول الملائكة إلى البشر، فنفخ في جيبها فحملت فولدت، فأتت به قومها تحمله، فأخذوا يسألونها ويتهمونها: ﴿يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مريم: ٢٨ - ٢٩]، وإذا بالطفل الرضيع ينطق ويقول: ﴿إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ﴾ [مريم: ٣٠]، وإذا به يظهر لهم المعجزة منذ كان طفلاً رضيعاً، وهكذا آمن من آمن من بني إسرائيل، وأصر على الكفر من أصر، وهو خاتم أنبياء بني إسرائيل، وكانت معجزة عيسى وأمه مريم في كونهما آيتين، فهي ولدت بلا فحل، وهو ولد بلا أب.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ)) أي: عيسى ابن مريم وأمه مريم آية، ولم يقل: آيتين؛ إذ إنه عندما ينطق بها: (آية) فالمعنى: جعلنا عيسى آية وجعلنا أمه آية، أو جعلنا النشأة والشأن آية في كونها بلا فحل وبلا رجل ولدت عيسى.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)) آواهما الله وأسكنهما وأنزلهما إلى ربوة، والربوة هي المكان المرتفع من الأرض.
((ذَاتِ قَرَارٍ)) أي: ليست بادية تحتاج إلى التنقل من مكان إلى مكان للكلأ وللخصب وللماء، ولكنها ربوة قارة لما فيها من خصب وخيرات وثمار وأرزاق وماء معين.
((ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ)) أي: ماء جار، وأنهر جارية متدفقة، وهكذا كان، فبعد أن اتهم مريم قومها بما اتهموها به أكرمها الله تعالى وآواها وأسكنها في مكان مرتفع ذي أشجار وثمار وخصوبة ومياه جارية دافقة.
واختلف المفسرون أين هذه الربوة وأين مكانها، فيقول الدجال غلام القادياني هذا الجاسوس الإنجليزي الذي تبعه الكثيرون: إن الربوة في أرض الهند، وادعى أنه هو عيسى الذي سينزل وأنه قد نزل، وقد كان دعياً وكان دجالاً، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (إن بين يدي الساعة ثلاثين دجالاً) ولا عبرة بالعدد، فهو أحد الدجاجلة.
وزعموا أن الربوة في أرض الهند، وأتوا إلى ربوة مرتفعة ذات خصوبة ومياه فعمروها وسكنوها، ولا تزال قائمة إلى اليوم، وهم يفجرون ويكذبون على الله، ولم يقل أحد من المفسرين بأن هذه الربوة في الهند، ولكنها من جملة أكاذيب الدعي الدجال.
وأما المفسرون فقال بعضهم: الربوة هي دمشق، وقالوا: هي غوطة دمشق، وقالوا: في مصر، وقالوا: الرملة من أرض فلسطين، وقالوا: بيت المقدس، وقالوا: فلسطين، ولكن الآي يفسر بعضها بعضاً، فالربوة كانت على أميال من بيت المقدس، وقد ذكرت في القرآن وأنها ذات مياه وذات خصب، وأن الله قال لـ مريم عندما ولدت عيسى: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥]، فالربوة قد ذكرت في القرآن، والقرآن يفسر بعضه بعضاً، فكون في الشام أو في الغوطة قرية اسمها الربوة هذا لا يزيد ولا ينقص، وأما مصر فلم يذكر أن عيسى وصلها، وأما الشام ففلسطين ولبنان والأردن وما يسمى اليوم سوريا، فهي في أرض الشام ولكن على أميال من بيت المقدس، وقد ذكرت غير مرة.
((وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً)) أي: جعلناهما آيتين؛ جعلنا عيسى آية وجعلنا مريم آية، أو جعلنا الشأن فيهما آية دالة على القدرة الإلهية، وعلى المعجزة النبوية لعيسى ومريم، وآواهما وأسكنهما وأنزلهما في ربوة في أرض مرتفعة ذات مياه دافقة، وثمار وأشجار وخيرات متتابعة.


الصفحة التالية
Icon