تفسير قوله تعالى: (يا أيها الرسل كلوا من الطيبات)
ثم قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ﴾ [المؤمنون: ٥١].
يقول الله لنبيه وخاتم أنبيائه أنه قد سبق أن قال للأنبياء السابقين: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ)) أي: كلوا الحلال الطيب ولا تقربوا الحرام بحال، فلا تتخذوه مشرباً، ولا تتخذوه مطعماً، ولا تتخذوه متجراً، ولا تتخذوه ملبساً، وفي الحديث النبوي: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ))، وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ﴾ [البقرة: ١٧٢]، يقول الراوي وهو أبو هريرة: ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر) أي: أشعث في شعره، أغبر في ثيابه؛ لطول السفر ولطول العبادة ولطول السياحة، ولطول الدعوة، (ثم هو يقول: يا رب يا رب! ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له!)، وهذا معنى قوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً)، فالمال الحرام مهما بذله باذله ومهما صرفه صدقة أو عطاء أو هدية أو حجاً أو نفقة فلا يعود عليه إلا بالوبال، فالفاسد لا ينتج إلا فاسداً، والصالح هو الذي ينتج الصالح، فالله لا يقبل إلا طيباً، ولا يقبل من الأعمال إلا الصالح وإلا المال الصالح، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (نعم المال الصالح للرجل الصالح)، وما دون ذلك فهو ثقل يحمله الإنسان، فيتخفف منه من زال عنه، ويعذب به من ابتلي به.
﴿يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا﴾ [المؤمنون: ٥١] أي: وكما أمرنا من سبقك من الأنبياء نأمرك كذلك يا محمد، وقد ألهم الله عبده محمداً ﷺ قبل النبوءة برعي الغنم، وقد ذكر ﷺ ذلك عن نفسه فقال كما في الصحيح: (ما نبي إلا ورعى الغنم، فقيل له: يا رسول الله وأنت؟ قال: نعم، وأنا رعيت لقومي على قراريط) أي: على هللات.
فهو منذ الطفولة عاش بالحلال وبكد العمل وبعرق الجبين، ثم عندما شب شارك السيدة خديجة في مالها مضاربة، وذهب يتاجر لها في أرض الشام، وبعد ذلك جعل الله رزق محمد ﷺ في سيفه في غنائم الكفار وفي غنائم المشركين مالاً وأرضاً وفي كل ما يملكون.
﴿مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ﴾ [الحشر: ٧] أي: من أهل القرى المشركة، فملك نبيه ﷺ قراهم ونساءهم ورجالهم وأطفالهم، فامتن على من شاء منهم، واستعبد من استعبد، وقتل من قتل، وغنم ما غنم، كما عليه الصلاة والسلام: (وجعل رزقي تحت ظل رمحي) أي: في الحرب والجهاد والدعوة إلى الله.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا)) وهذا ما يؤمر به أتباعهم: أن يكون طعامهم حلالاً طيباً، وملبسهم كذلك، ومشربهم كذلك، وغذاؤهم كذلك، ومسكنهم ومأواهم كذلك، وأن يعملوا الصالحات، وما الصالحات إلا الطاعة للإله جل جلاله، والطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فافعل من الأوامر ما استطعت، واترك جميع ما نهيت عنه.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)).
هذه الفقرة من الآية الكريمة فيها وعيد وتهديد، وإن كان للأنبياء فمن باب أولى لغيرهم ممن ليس بمعصوم، أي: يقول جل جلاله لأنبيائه ويقول تبعاً لأتباعهم: كلوا الحلال، وكلوا الطيب واعملوا الصالح، فإني بما تعملون عليم.
((يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)) أي: رقيب عليكم وعلى أعمالكم، فآمر الملائكة المرافقين للإنسان أن يكتبوا الخير والشر، ولكن الرسل أكرمهم الله فعصمهم عن السوء، وعصمهم عن الذنوب، ولكن مع ذلك قال لهم الله بأني عليم بأعمالكم، فاصنعوا ما أمرتكم به ولا تخرجوا عنه، واعلموا أن عيني عليكم رقيبة، وملائكتي الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون يكتبون كل شيء عليكم.
((إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ)).


الصفحة التالية
Icon