تفسير قوله تعالى: (فتقطعوا أمرهم بينهم زبراً)
فكانت النتيجة: ﴿فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣].
تقطعوا، أي: هذه الشعوب التي أرسلت إليها الرسل والأنبياء قطعوا الدين الواحد والملة الواحدة والدعوة إلى الله قطعوها قطعاً.
وزبر: جمع زَبْر أو زبور، وهي القطعة من قطع الحديد والفرقة من الفرق، فجعلوا أنفسهم فرقاً، فهذا يعبد مريم، وهذا يعبد عيسى، وهذا يعبد عزيراً، وهذا يعبد العجل، وهذا يعبد الحيوان، وهذا يعبد الملك، وهذا يعبد الجماد.
((فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ)) قطعوا الأمر، وقطعوا الرسالة، وقطعوا الوحدة، وقطعوا الدين الواحد، والدعوة الإلهية الواحدة وجعلوها فرقاً وأحزاباً.
﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ أي: كل طائفة من هؤلاء أشربوا الكفر، وانشرحت له صدروهم، ففرحوا بما لديهم، وزعموا أنهم وحدهم هم الذين على الحق، هكذا زعم اليهود، وهكذا زعم النصارى، وهكذا زعم المجوس، وهكذا زعم الضالون المبتدعون من المسلمين عندما فرقوا دينهم وكانوا شيعاً، فقد قال عليه الصلاة والسلام: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فميزان الدين الحق والفرقة الناجية التي هي على الحق: هو الأسوة النبوية، وهو السيرة الراشدة النبوية، وهو ما قال الله عنه: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ [الأحزاب: ٢١]، فموضع الأسوة والهداية والاقتداء ما فعله ﷺ أو قاله أو أقره، فهو الحق المبين الذي لا يختلف فيه مسلمان، ولا يعارض فيه إلا كافر مشرك، فمن ائتسى به كان على الحق، وكان مع محمد على الحوض في الحنة صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وما سوى ذلك فباطل وهراء وكذب وزيغ.
وإذا قلنا: الأمة المحمدية فالمراد الأمة التي أرسل لها النبي صلى الله عليه وسلم، والأمة التي أرسل إليها هي كل شعوب الأرض.
﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: ١٥٨]، فمنذ قالها وأرسل بها في هذه البقاع المقدسة وهذه الأرض الطاهرة لزمت كل من بلغته، فهو خاتم الأنبياء، وهو محمد المكي المدني صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وأن الدين الحق هو الإسلام: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ﴾ [آل عمران: ١٩]، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ [آل عمران: ٨٥]، فكل من هو على الأرض فهو من الأمة المحمدية، ومن استجاب وكان مسلماً فهو من أمة الاستجابة، ومن أبى وتمرد فهو من أمة الدعوة، والحجة قد قامت عليه بكتاب الله المقروء بالألسنة، والمحفوظ في الصدور، والمكتوب في السطور، والمذاع في أجهزة الإعلام سماعاً وتدبراً، وهكذا في جميع بقاع الأرض: في أرض الكافر وأرض المؤمن وأرض المنافق كل ذلك سواء، فقد قامت الحجة وبلغت الجميع، لكن اليهود والنصارى حرفوا التوراة والإنجيل وغيروهما بأكاذيبهم وضلالهم وانحرافهم، وهكذا غيروا التوراة فهي غير التي أنزلت من قبل، فهذه فيها هجو الأنبياء وقذفهم، والتطاول على المقام الإلهي، وفيها الشرك، وفيها الكذب، وفيها الفسق، وفيها الفساد، وقل مثل ذلك على الإنجيل كما رأيناه، وكما كان وقت نزول القرآن، فقد ألهوا عيسى، وألهوا مريم، وجعلوا الرب ثلاثة، وهكذا غيروا وبدلوا، وجعلوا الزبور كذلك.
وجاء بعدهم آخرون فوضعوا كتباً نسبوها لمن سموهم فلاسفة وسموهم هداة، وسموهم قادة، فغيروا كتاب الله، وغيروا دين الله، فكذبوا وفجروا وأشركوا كل حسب عقله وحسب شركه، وكانت كلها فرقاً باطلة كاذبة، كما قال ربنا جل جلاله: ﴿كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٣] أي: يفرحون بالباطل، ويفرحون بالضلال، وفرحوا بتكذيب أصل الدعوة وأصل الكتاب: بأن الدعوة واحدة وهي عبادة الله وحده لا شريك له من ملك أو جن أو إنس أو جماد أو أي شيء، فالمعبود الواحد هو الله جل جلاله، وبذلك أتت الأنبياء من أولهم آدم إلى خاتمهم نبينا صلوات الله وسلامه.


الصفحة التالية
Icon