تفسير قوله تعالى: (أيحسبون أنما نمدهم به من مال وبنين)
ثم قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦].
قال تعالى عن هؤلاء: أيظنون أن ما رزقناهم من أموال، ومن غنىً، ومن ترف، ومن خيل، ومن إبل، ومن قصور، ومن شباب، ومن قوة، أيظنون أننا بذلك نسارع لهم في الخيرات؟! قال تعالى: ﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ﴾ أيظن هؤلاء المشركون الكافرون ((أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ)) نعطيهم إياه لبقاء حياتهم، أيظنون أنا نسارع لهم في الخيرات، ونبتليهم بالخيرات في الدنيا قبل الآخرة، وأنا يوم القيامة سنزيدهم من ذلك؟! قال تعالى عنهم: بل هؤلاء في غوايتهم وفي تيههم وفي ضلالهم، فلا يشعرون بأن هذا الذي أعطيناهم ليس إلا ابتلاء واختبار واستدراج، وسيحاسبون على ذلك بالنقير والقطمير يوم عرضهم على الله يوم البعث والنشور، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم: (إن الله يعطي الدنيا لمن يحب ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا لمن يحب، فمن أعطاه الدين فقد أحبه، وإن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم)، ولذلك فالمجنون الضال هو الذي إذا رزق ووسع عليه وقوي في شبابه وقوي في أولاده، وقوي في سلطانه، ظن ذلك لما له من يد عند الله، فالله تعالى أعطاه ذلك في الدنيا، وأنه سيعطيه غيرها يوم القيامة، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً شربة ماء).
ونحن نرى اليهود أكثر غنىً، والنصارى أكثر سلطاناً ومالاً، ومع ذلك هم الأمم الخاسرة، والأمم الملعونة، والأمم الوثنية التي تعبد مع الله بشراً، وتجعل له آلهة مزيفة لم تكن يوماً كذلك، ولم يأتوا بالسلطان عليها، وما ذلك إلا ابتلاء واختبار، والمؤمن الصالح هو الذي لا يغتر، بل إذا كثرت عليه النعم يجب أن يستكثر من الصدقة، ومن العطاء ومن العبادة؛ حتى يقبل، وكيلا يكون ذلك ابتلاء واختباراً، ﴿وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: ٣٥]، وقد قال عليه الصلاة والسلام: (هلك المكثرون إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا) هلك: ضل.
فهؤلاء الذين أكثروا من جمع النشب والمال ضالون إلا الذين أكثروا من العطاء يميناً وشمالاً، وأنفقوا على أهليهم وعيالهم وذوي رحمهم، وأخرجوا الزكاة لمن ذكر الله في كتابه: للفقراء والمساكين وبقية الأقسام الثمانية، فيعطون السائل ولو جاء على فرس، وكما وصف الله المؤمنين: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥]، للمحروم الفقير والمسكين وللسائل حتى ولو لم يكن محتاجاً، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (للسائل حق ولو جاء على فرس)، فهذا الذي بذل لك ماء وجهه حتى ولو كان عنده فهو يحرم عليه أن يسألك، ولكنك أنت إذا سألك لا يليق بك أن ترده وقد بذل لك ماء وجهه، وذل لك وقال: أعطني فأعطه، فإن كان فقيراً فقد كان المال في مكانه، وإن كان مستغنياً فقد أجبت السائل كما قال الله: ﴿وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ﴾ [المعارج: ٢٤ - ٢٥] وابتدأ بالسائل، وقد الله لنبيه: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ﴾ [الضحى: ١٠].
فأنت إما أن تعطيه إن استطعت، وإما أن تقول له كلمة طيبة، مثلاً: غداً يأتيني مال وأعطيك، أو أعطاك الله ورزقك، ولا تنهره ولا تصح في وجهه، وما يدريك أن تنقلب الآية فتصبح يوماً أنت السائل وهو المسئول.
﴿أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٥٥ - ٥٦].
أي: أيظن هؤلاء النوكى والحمقى أن ما نعطيهم ونبتليهم ونختبرهم به من مال أن ذلك سرعة منا لخيرهم في الدنيا قبل الآخرة؟! ((بَل لا يَشْعُرُونَ)) أنه ابتلاء وأنه اختبار وأنه زيادة في النقمة وزيادة في المحاسبة؛ لأنهم عندما ابتلوا بذلك لم يعطوا فقيراً، ولم ينفقوا على من يحتاج نفقة، ولم يعطوا سائلاً، ولم يخرجوا حقوق الله في مالهم، وأول معركة وأول حرب أهلية في الإسلام كانت منذ الوفاة النبوة على من امتنعوا عن أن يؤدوا الزكاة، فحاربهم أبو بكر الصديق بعد مخالفة من بعض الصحابة، فقد احتج عليه عمر وقال: كيف نقاتل هؤلاء وهم يقولون: لا إله إلا الله؟ فقد أمرنا أن نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، وإذا بـ أبي بكر يعنفه ويصيح في وجهه ويقول له: يا ابن الخطاب أبطاش في الجاهلية خوار في الإسلام؟! أتمم حديث رسول الله: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، فأخذ يقول له: أليس من حق لا إله إلا الله أداء الزكاة؟ أليس من حق لا إله إلا الله القيام بالصلاة؟ فقال عمر: والله ما هو إلا أن شرح الله صدر أبي بكر بما شرحه له حتى شرح صدري، فكان إجماعاً من الصحابة على أنه إذا تواطأت فئة أو أهل مدينة على منع الزكاة فإنهم يحاربون ويقاتلون، فمن قتل منهم فإلى جهنم ودمه هدر، ومن بقي فإنه يجبر على إعطاء وأداء الزكاة رضي أو لم يرض، وكما في الحديث النبوي قال النبي عليه الصلاة والسلام عن الزكاة: (إنا آخذوها أمراً من أمر ربنا، فإن أعطوها عن طيب خاطر وعن رضاً كان لهم أجرها، وإلا أخذناها عن يد وهم مقهورون) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
وهذا مذهب الشافعي أن من امتنع من أداء الزكاة فإنها تؤخذ منه قهراً ولا أجر له ولا ثواب، بمعنى أنه تباح أملاكه وما عنده من نشب في أداء ذلك، وترى الضرائب التي تعطى في دول إسلامية غير دولتنا عندما لا يؤدون الضرائب للحكومة فإنهم يبيعون عليهم أملاكهم ونشبهم ودورهم، ويكون التمام إلى السجن والعذاب والمهانة، فحق الله هو في إعطاء الفقراء والمساكين ما ملكهم الله إياه: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ﴾ [التوبة: ٦٠]، وقد أجمع مفسروا الآية على أن هذه اللام في الآية هي للتمليك، أي: ملك الله الفقراء والمساكين ومن ذكر الله قدراً من المال في مال الأغنياء.