تفسير قوله تعالى: (قد كانت آياتي تتلى عليكم فكنتم على أعقابكم تنكصون)
قال تعالى: ﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ * مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٦ - ٦٧].
ففي حال الحياة وحال قبول الأعمال أو رفضها كانت آياتي تتلى عليكم وجاءكم أنبياء الله، ورأيتم معجزات الرسل وقدرة الله على الخلق والإيجاد والإحياء والإماتة ثم الإحياء والبعث، ((فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ)) كنتم تسمعون ذلك فتهزون أكتافكم وتسخرون بالتالي وبالقارئ وبالداعية، ثم تنقلبون متنكصين على أعقابكم القهقرى، فرجعتم إلى جاهليتكم الأولى وإلى شرككم الأول قبل أن يأتيكم أنبياؤكم، وقبل أن ترسل لكم رسلكم، وقبل أن تنزل كتب الله عليكم؛ لتعلموا الحق، وتميزوا بينه وبين الباطل.
فآلآن وقد عشتم بعد الموت ووجدتم ما كنتم تنكرون وقد أصبح واقعاً، وهاأنتم الآن قد بعثتم بعد الموت لتعرضوا على الله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
﴿قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ﴾ [المؤمنون: ٦٦]، الأعقاب جمع عقب وهو آخر الرجل، والمعنى: كنتم ترجعون إلى الوراء وترجعون القهقرى، فرجعوا للكفر، ورجعوا للشرك، ورجعوا للباطل والضلالة، وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض)، فالرجعي هو الذي يرجع للكفر، ويرجع للشرك، ويرجع لحالات الجاهلية، ويرجع لحالات الفوضى حيث لا نبي ولا كتاب ولا رسول، فكانوا يرجعون القهقرى وتركوا التقدم، وتركوا التجدد، وما التقدم والتجدد إلا في التمسك بكتاب الله، والالتزام بدين الله، وطاعة رسول الله ﷺ فيما أمر به ونهى عنه.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ)) هذا الضمير لم يكن له ذكر ظاهر، ومن هنا قال البعض: (مستكبرين به) أي: مستكبرين متعالين متعاظمين على نبي الله، فالضمير يرجع على كتاب الله المتلو، وقيل: على البيت، وأقرب المعاني أنه يرجع على البيت، والخطاب يخص قريشاً خاصة.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ)) أي: متعاظمين ببيت الله الحرام، فقد كانت قريش تزعم أنهم جوار زوار بيت الله لا يخافون أحداً ولا يخشون عذاباً، ولا يخشون نقمة، ويعتقدون أن ما هم فيه من شرك ومن أوثان ومن أصنام ومن تغيير دين إسماعيل ودين إبراهيم هو الحق الذي يعيشون عليه، ويرون بذلك أن لهم حقاً على جميع العرب وغير العرب؛ حيث حرسوا البيت وكانوا سدنته، وكانوا مستقبلين ضيوفه، وكانوا وكانوا، ولكن كل ذلك لم يفدهم شيئاً عندما بقوا على كفرهم وشركهم، فقد كانوا متعاظمين مستكبرين بالبيت، وقد حاولوا أن يضلوا البيت إلى أن جاء النبي ﷺ فأعزه، وكسر الأصنام ورمى بها ونبذها، وأقعد بلالاً على ظهر الكعبة يعلن كلمة الحق ويعلن شهادة الحق: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولم يقبل النبي ﷺ أن يطوف بالكعبة حتى يزيل تلك الأصنام التي كانت على عدد الأيام (٣٦٠) صنماً، فكسرها وجعلها شذر مذر ورماها، حتى لقد تمنى زنديق في هذا العصر ممن يقوم بالحفريات أن يخرج هذه الأصنام ويظهرها كأثر ويظهرها كتاريخ؛ شوقاً إلى عهد الوثنية، وشوقاً إلى عهد الأصنام، واقترح ذلك على الحكام قبل وبعد فخاب وخاب فأله.
((مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ)) (سامراً) ساهراً من السمر، وهي كلمة مفردة يراد بها الجمع، أي: كانوا سامرين ساهرين، ويراد بها الزمن، كأن تقول: سَمَراً، وهذا موجود في لغة العرب أن تذكر كلمة مفردة ويقصد بها الزمن، أي: مستكبرين به سَمَراً يهجرون.
((سَامِرًا تَهْجُرُونَ)) سامرين جميعاً ساهرين، و (تهجرون) قرئ يُهجرون ويهجرون من الهجر أو الهجران، أي: يسمرون حول الكعبة وحول البيت ويهجرون، أي: ينطقون بالهجر وبالفحش وبالسب، فكانوا يسبون نبي الله صلى الله عليه وسلم، ويتهمونه في صدق رسالته، وفي صدق الكتاب الذي أنزل عليه، وفي دعوته صلى الله عليه وسلم، فكانوا يسبون القرآن فيقولون عنه: شعر، ويقولون: سحر، كما يقولون هذا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم.
أو يهجرون من الهجران، أي: يهجرون الرسالة، ويهجرون النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجرون الحق ويبتعدون عنه، ويهجرون كتاب الله، أي: هؤلاء الذي استكبروا وتعالوا بالكعبة وببيت الله الحرام لم يكن ذلك عن حق ولا عن إيمان ولا عن هدى، وإنما كان ضلالاً، وكان كفراً وكان جهلاً وكان إصراراً على الكفر، ولهذا عندما لم يعرفوا قيمة البيت وجلال البيت في سدانته وفي القيام عليه نزعه الله من أيديهم ودخله ﷺ فاتحاً عزيزاً سيداً مظفراً عليهم، وهو ينشد نشيد الفتح: (الحمد لله الذي نصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده)، منكساً رأسه على بعيره بكل تواضع، وهو على جمل وليس على فرس، ومشية الجمل هوجاء ومشية الفرس تكون رقصاً، والنبي ﷺ زيادة في التواضع لربه دخل على هذه الهيئة ولم ينسب لنفسه شيئاً، فالله هو الفاتح، والله هو الناصر، وهو قد أعاد الكل إلى الله، ولا شك أن كلاً منه جل جلاله، وهو يعلم بذلك المؤمنين والفاتحين والحاكمين؛ لأن الله يكرم المؤمن فتحاً وزيادة وغنىً وجاهاً؛ ليزداد بذلك تواضعاً وخنوعاً لله وطاعة لله، فالكل منه وإليه.