تفسير قوله تعالى: (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله)
قال الله تعالى: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا * أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: ٣٩ - ٤١].
ذكرنا في قوله تعالى: ﴿وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٢٨]، أن الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام في ألا يتجاوز بنظره وعينيه وبمجالسته وعنايته ورعايته فقراء المسلمين وصعاليك المؤمنين، وأن يصبر معهم، وعلى فقرهم، وعلى بعض لأوائهم، وعلى بعض خشونتهم، فهم الذين يصبحون ويمسون ذاكرين ربهم جل جلاله، داعين له، ضارعين بين يديه، يسألونه الرحمة والمغفرة والتوبة.
وقوله: ﴿وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ [الكهف: ٢٨]، هي مقولة للنبي صلى الله عليه وسلم، وفي الوقت نفسه هي تأديب وتعليم وتوجيه للمؤمنين، والنبي ﷺ معصوم من الذنوب والآثام صغيرها وكبيرها وليس له رغبة في الدنيا وزينتها، وهذا كقوله تعالى لنبينا عليه الصلاة والسلام: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥]، والنبي ﷺ لا يشرك، وهو معصوم، وقد أتى لتعليم الناس توحيدهم ودينهم والرسالة التي أوحي له بها، ومن هنا نعلم باستمرار أن ما كان كذلك فهو خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه المبلغ عليه الصلاة والسلام عن ربه، والمؤدب والمعلم والموجه، فيكون المكلف المخاطب أولاً، وعليه البلاغ لغيره.
قال تعالى: ﴿لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ﴾ [الزمر: ٦٥] أي: لئن أشركت أيها المؤمن! ليحبطن عملك، ولست بمعصوم ولا محفوظ من الذنوب والآثام، فلا تتخذ من الدنيا زينة، ولا تتكبر وتتعاظم على عباد الله.
وهكذا في الآية التي مضت في سورة الإسراء في أنه لو تقوّل أو تزيّد لعاقبه الله، كما قال الله: ﴿إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ [الإسراء: ٧٥]، فهذا خطاب له، وهو أمر للمسلمين ألا يفعلوا ذلك حتى لا يصيبهم ذلك وأمثاله.
قال صاحبنا المسلم لصاحبه الكافر الذي كفر بربه عندما دخل جنته: ﴿مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ [الكهف: ٣٥ - ٣٦] إلى أن قال ما قال.
فأجابه صاحبه المسلم كما قال الله: ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا * لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٣٧ - ٣٨].
فهذا الصاحب المؤمن جادل صاحبه الكافر المشرك المنكر للبعث والمنكر أن تبيد جنته ودنياه أو أن تكون هناك حياة ثانية دائمة وهو متعاظم على صاحبه المسلم بماله وبأولاده وبما عنده فصبر عنه صاحبه الصالح المؤمن إلى أن انتهى من قوله الكفري الشركي ومن جنونه وهرائه، ثم كرر عليه وهو يحاوره ويحادثه ويبادله القول والحديث، فقال له: ﴿أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ﴾ [الكهف: ٣٧]، لقد كنت كافراً بقولك: إنه لا بعث ولا فناء ولا حشر ولا عرض، فكفرت بربك الذي خلقك من تراب، إذ كلنا من آدم، وآدم من تراب، ثم أنت من نطفة، أي: من ماء مهين، ومن أب وأم، وصلب ورحم، ومع ذلك تشرك بربك، وتتعالى عليه، وتنكر الرسالات، والبعث! أيليق هذا بإنسان خلق من تراب ثم من نطفة من ماء مهين؟! ﴿لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٣٨] أي: لكن أنا، فحذفت الهمزة وأدمجت النون السابقة باللاحقة، فصارت الكتابة والنطق: لكنا، وتفسير القول: لكن هو الله ربي أنا، أما أنا فلا أشرك بالله، فهو خالقي من تراب، ومن نطفة، وهو سيعيدني مرة ثانية، ويبعثني كما يبعث كل الخلق، فأنا أومن بهذا وأعترف وأقر به، وأفرد ربي بالوحدانية وبالعبادة وبالدعاء، وأستعيذ بربي أن أصنع صنيعك.
﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ﴾ [الكهف: ٣٩] أي: هلا، فهو يعظه ويرشده ويعلمه الإيمان ويوجهه إليه، شأن المؤمن بربه الداعية إلى الله، وهكذا وظيفة المسلم حيث كان في بقاع الأرض، قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ [آل عمران: ١١٠].
وهكذا هذا الصاحب المؤمن عندما رأى هذا الكافر القذر الوسخ، الذي ما كاد يملك شبراً من أرض وقطرة من ماء حتى تعاظم على الفقراء والمساكين والمؤمنين، وكفر وأشرك بربه، وأنكر البعث.
﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩]، أي: هلا قلت إذ رأيت جنتك وأعجبت بها وبأشجارها وبخضرتها وبمياهها الدافقة، وإذ رأيت أولادك وأعجبت بهم وبكثرتهم وبمن يحيط بك من أولاد وخدم وحشم؛ هلا قلت عند ذلك: ﴿مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩]، ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ﴾ [الإنسان: ٣٠].
فلم تكن جنتك بقدرتك ولا بإرادتك، ولكنها كانت بمشيئة الله وقدرته، فأنت لا تملك مع ربك قليلاً ولا كثيراً، بل أنت خلق من خلقه كجنتك وولدك ومالك وما أعجبت به، فهلا عندما أعجبت بما أعجبت به قلت: ((ما شاء الله)) أي: الأمر والشأن قد شاءه الله وأراده، ((لا قوة إلا بالله)) أي: لا قوة لي ولا لأحد من الخلق إلا بالله، فبقوة الله زرعت بستاني وفجرت مياهه، وبقوة الله رزقني ما أتزوج به، وهو الذي أتى بالذرية والأولاد والخدم والحشم، فكل ما أنا فيه بمشيئته وبقدرته وبإرادته.
وكان الواجب عليك إذ كان الأمر كذلك أن تشكر ربك وتثني عليه وتنزهه وتعظمه وتجله، لا أن تتكبر على ربك، وعلى نبيك، وتنكر البعث والتوحيد والمشيئة والقدرة، فهلا خفت يا هذا المخلوق! وقد نظرت إلي نظرة التحقير والإزدراء، وأخذت تتعالى علي وتقول: ﴿أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾ [الكهف: ٣٤]، فإن رأيتني كذلك أقل منك مالاً وولداً.
و (أنا) ضمير فصل هنا لا يعمل فيها الإعراب، ولا تعمل فيها الحركة، و (أقل) هي مفعول منصوب بالفعل، (ترني)، و (أنا) إنما جاءت فاصلة لتأتي بالقول وبالكلام، وليست هي من الضمائر المرفوعة ولا الرافعة لغيرها، ويكون المعنى: إن أنت رأيتني أقل منك مالاً، وأقل منك نفراً، ومالك أكثر من مالي، وأولادك أكثر من أولادي، ونفرك المحيطون بك من الخدم ومن الحشم ومن الجنود الذين تعتز بهم، إن كنت كذلك ﴿إِنْ تُرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا * فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ [الكهف: ٣٩ - ٤٠] أي: لعل الله أني يكرمني ويعطيني ويتفضل علي بجنة خير من جنتك، أوسع منها أرضاً، وأكثر منها أنهاراً، وأعلى منها أشجاراً، وأكثر منها ثمراً وفاكهة وكل ما يعود علي بالمال والغنى والثروة.
((فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ)) ويرسل على جنتك ﴿حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الكهف: ٤٠] أي: صاعقة وناراً من السماء؛ إذ أعطاك وأكرمك ورزقك، فلم تشكر النعمة، ولم توحد الرزاق، ولم تحمده وتشكر له ما أعطاك وأنعم به عليك.
﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ﴾ [الكهف: ٤٠]، ناراً محرقة تأتي على الأخضر منها واليابس، فتغير مياهها، وتجفف أشجارها، وتضيع ثمارها، فإن من يكفر النعمة جدير بأن يسلبها وبأن تزال عنه.
والحسبان الصاعقة والنار والأحجار التي تأتي عليها وكأنها لم تكن.
﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: ٤٠] أي: فتتبدل من الجنة ذات الأشجار الباسقات والأزهار المنيرات والمياه المتدفقة إلى أرض ملساء لا تنبت، وليس عليها شجرة ولا ورقة خضراء ولا قطرة ماء، كما قال تعالى: ﴿فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾ [الكهف: ٤٠]، أي: أرضاً ملساء لا تنبت، قاحلة لا شجر فيها ولا خضرة ولا ما يعجب البتة.
زلقاً: أي: رمالاً، إذا أنت وقفت عليها تزلق رجلك؛ لأنها أصبحت سبخة صاعدة بارزة، وكأنها الصحاري والأرض ذات الرمال التي لا تكاد تحمل رجل الرجل حتى يزلق ويقع، وقد تدخل رجله في الأرض فلا يستطيع المضي ولا الذهاب ولا الإياب.
قال تعالى: ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا﴾ [الكهف: ٤١].
(غور) مصدر بمعنى فاعل، أي: أو يصبح ماؤها غائراً، أي: ضائعاً قد غار في الأرض بعيداً عن سطحها وعن فورانها وعن أن ينفع جنتك وأشجارها وزراعتها وثمارها.
﴿فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾ [الكهف: ٤١] فيصبح غائراً ضائعاً في أعماق الأرض، فلن تستطيع له طلباً مرة أخرى، لا بحفر ولا بسعي ولا ببذل، فإذا كفرت بربك ولم تشكر نعمته أخذ نعمته عليك وسلبك إياها.
وقال سلفنا الصالح في قول هذا الصاحب المسلم: ﴿وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾ [الكهف: ٣٩]: ينبغي للمسلم إذا رأى ما يعجبه من أهله أو أولاده أو ماله أن يقول: ما شاء الله لا قوة إلا بالله.
فهو حري أن تدوم تلك النعمة وألا تصيبها آفة إلى الموت.
وقد ورد هذا نصاً عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، فقد روي عن أ