تفسير قوله تعالى: (وأحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه)
قال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٢].
صدق ما قاله المسلم لصاحبه الكافر عندما تعالى بماله، وظن أن ذلك قد أوتيه بحظ عنده، وبمقدرة انفرد بها، فوبخه وأنذره بأنه يوشك أن تزول عنه هذه النعمة، وترى البلاد والأرض والجمال والبستان وكأنه لم يكن يوماً من الأيام؛ بما يصيبه من قوارع وصواعق من السماء تحرقه، وبما يضيع من مائه فيغور في الأرض فلن تستطيع له طلباً.
وما كاد يقول له ذلك، وينام بعد ذلك ليلة أو ليلتين إلا وأصبح يجد بستانه على ما توقعه له صاحبه المسلم، فأصبح في البلاء وسلب هذه النعمة.
قال تعالى: ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ [الكهف: ٤٢] أحيط: من الإحاطة، أي ذهب بستانه وجنته وما فيها من ثمار، فقد ذهبت جميعها وكأنها لم تكن يوماً، وأصبحت صعيداً زلقاً بلقعاً لا تنبت ولا تؤتي ثمرة ولا زهرة ولا خضرة ولا قطرة ماء، وكان ذلك بسبب كفره وشركه وعدم اعترافه لله بنعمته، فسلب هذه النعمة، قال تعالى: (وأحيط بثمره) أي: ذهب جميع ثمار أرضه وعمله وجميع أتعابه، فأصبح خاوي الوفاض، ساقط العروش والسقف والمنازل.
﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [الكهف: ٤٢].
قوله: (أصبح)، يدل على أن هذا حصل له بالليل، فما كاد يصبح ويأتي بستانه ليتعهده ويتنعم فيه على عادته حتى وجد هذا المنظر، فكاد يغمى عليه ويجن، وشك هل هذه هي أرضه وبستانه أو لا؟ وعندما رأى الحدود والجيرة والمكان الذي فيه بستانه تأكد أن هذا الذي حدث فيه هذا البلاء والصواعق المحرقة والمياه الغائرة هو بستانه وجنته وما فيها من ثمر، فأصبح يضرب على كفيه ندماً وأسفاً، وهكذا شأن من بلي ببلاء، فأخذ يندم ويتأسف ويتوجع، وقد مضى الوقت والزمن، وهيهات فالوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
فندم على ما كان منه من كفر ومن شرك ومن إنكار للبعث، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وما بذلت كفاه من مصروف ومن أموال، فقد بلغت من الكثرة أن استغرق جميع ماله في هذا البستان.
وحال كونه يتندم ويتأسف ويتوجع كان هذا البستان خاوياً على عروشه، فارغاً خالياً ساقطاً عاليه على سافله؛ من الصواعق التي نزلت وهدت ما فيه من بناء، وأصبح السقف أرضاً وصعيداً زلقاً، وأصبحت المياه غائرة لا يقدر منها على شربة، فذهب كل عمله، وأصبح نادماً آسفاً على كفره وشركه وما مضى منه، ولكن هيهات، فقد سبق السيف العذل! قال تعالى: ﴿وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٢]، فقال هذا بعد فوات الأوان، وبعد أن جرى عليه ما جرى وأحيط بثمرة، فعندما ندم وتوجع وقلب يديه بعضها على بعض أصبح يتندم ويقول: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾ [الكهف: ٤٢]، يندم في نفسه بتقليب يديه، ويندم بلسانه ويتمنى بأنه لم يشرك بربه أحداً.
وهل آمن بعد ذلك وهو في الحياة، لم يذكر لنا الله هل آمن أو لم يؤمن، ولكنه ندم على كونه أشرك وكفر لما كانت هذه النتيجة، فقد ذهبت جناته وما فيهما من ثمار وأشجار وأنهر دافقة، فيمكن أن يكون قد آمن وندم على شركه، ولكن القرآن لم يبين ذلك، وكذلك نبينا عليه الصلاة والسلام لم يبين ذلك؛ لأن العبرة في ضرب مثل بما جرى وبمن كان موحداً أيام بني إسرائيل، فضرب ذلك مثلاً في أغنياء الكفار وفقراء المؤمنين، وأن هؤلاء الأغنياء لا يتعاظمون على فقراء المؤمنين والمسلمين، بما لديهم من أولاد وأموال، فقد سبق أن كان مثل هذا لـ قارون، وإذا بالأرض تخسف به وهو في زينته وفي أمواله.
وكذلك ما ذكره الله تعالى عن هذين الرجلين الصاحبين أو الأخوين عندما تعالى أحدهما على الآخر.
والله يضرب هذه الأمثال ويقول للفقير المسلم: يا أيها الفقير! لا تتألم ولا تتوجع لحالك، وإياك أن تغتر بمال ذلك الغني الكافر العاصي، فأنت إن بقيت على الإيمان والطاعة أشرف من ذاك، والدار الآخرة الدائمة خير لك، وخير لولدك ولحشمك، وخير لك مآلاً وعاقبة وآملاً، وذاك الذي أنت تعتبره شيئاً كبيراً يوشك أن يأتي الله على ماله وعلى ولده في الدنيا قبل الآخرة، ولعذاب الله أنكى وأشد.
وقد ذكرنا أن سبب نزول سورة الكهف هو أن عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث ذهبا سفيرين من كفار مكة إلى يهود المدينة يسألانهم عن صفة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فكان ما قلناه قبل، وكانت النتيجة هذا المثال بالكافر المنكر للبعث عقبة والنضر وأمثالهما، وهكذا كان فقد مات عقبة والنضر على أشد أنواع الكفر، وكانا من أشد أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وممن لقي منهم رسول الله في مكة المكرمة عنتاً في الأيام الأولى عند اضطهاد الإسلام والمسلمين، كما لقى المسلمون، وكانت النتيجة أن نصر الله نبيه وعبده سيدنا رسول الله ﷺ في غزوة بدر، واختار هذين بالذات دون بقية الأسرى من كفار قريش فأمر بقتلهما وقطع رقابهما صبراً دون قتال، فأخذ يصيح عقبة ويقول: مالي أنفرد بهذا دون إخواني من الأسرى، فسكت عنه النبي عليه الصلاة والسلام، فأخذ يقول: (يا محمد! من للصبية؟ فقال: النار).