تفسير قوله تعالى: (وهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار)
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٨].
اسأل هؤلاء من الكفرة والجاحدين، ومن أعداء الرسل والصالحين، ومن المكذبين بكتب الله التي جاءتهم، من الذي خلقكم من غير مثال سابق؟ ومن الذي خلق لكم الأسماع فأصبحتم تسمعون؟ ومن الذي خلق لكم الأبصار فأصبحتم تبصرون؟ ومن الذي خلق لكم القلوب فأصبحتم تعون وتفهمون؟ هل أولئك الذين جعلتموهم شركاء لله كمناة والعزى؟ أو مريم وعيسى؟ أو العزير والعجل؟ أو الملائكة الذين سميتموهم بنات الله؟ أو غير ذلك من جماد وحيوان وإنس وملك وجن؟ هل هم الذين أنشأوا وخلقوا لكم هذه الحواس فأصبحتم سامعين بعد إن لم تكونوا كذلك؟ فقد كنتم مضغة لحم، وكنتم نطفة، وكنتم جنيناً في أرحام أمهاتكم لا سمع ولا بصر ولا وعي لكم، ثم بعد ذلك رزقكم الله من الحواس ما تعيشون بها، وما تدركون بها، وتميزون بين الحق والباطل، فمن الذي أنشأ لكم ذلك واخترعه وخلقه وابتكره؟ (قليلاً ما تشكرون) قلما تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، فالله أنزل وحياً وكتباً سماوية مع أنبيائه وعباده المكرمين من الرسل؛ لينذر خلقه، ولينذر عباده، فإذا جاءوه جاءوه متقين، وجاءوه سالمين من الشرك والكفر والمعصية والخلاف؛ لتبقى حجة الله البالغة، حتى إذا هلكوا وأصبحوا بأمس الدابر، ودخلوا قبورهم وجاء الملكان يسألان من في القبر: من ربك؟ ومن نبيك؟ وما صلاتك وما زكاتك؟ فإنهم يجيبون بما علموه، وبما قاموا به، وعبدوا به ربهم، وأما إذا جاء وقت السؤال فأخذوا يقولون: لا نعلم، ولم ندرك، سمعناهم يقولون: جاءنا نبي فلم نؤمن به، فيا هلاك هذا، ويا بلاءه ويا عذابه الدائم.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [المؤمنون: ٧٨] الضمير يعود إلى الله تعالى، والضمير هنا للغائب ولكنه يكاد يكون أعرف من كل معرف، فهو أعرف حتى من (أنا) للمتكلم، ومن (أنت) للمخاطب، فعندما يطلق (هو) فلا يعنى به إلا الله جل جلاله، ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ﴾ [المؤمنون: ٧٨] هو الله، ﴿الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ﴾ [المؤمنون: ٧٨] خلقه وابتكره، و (السمع) بالألف واللام هو للجنس، أي: الأسماع، أي: سمع كل واحد منا منذ خلق أبانا الأول آدم وأمنا الأولى حواء وإلى آخر إنسان في الأرض، وقد يبتلى الإنسان فلا يكون له سمع، ولا يكون له بصر، ويكون مجنوناً فلا يكون له وعي، ولكن هذا بالنسبة للمجموع يكون نادراً وقليلاً، والأصل في الأشياء العموم.
﴿وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ﴾ [المؤمنون: ٧٨] جمع بصر، والأفئدة: جمع فؤاد، وهو العقل، ويطلق على القلب، وبكليهما يعي الإنسان ويعقل، ولو أصيب قلبه لمات، ولو أصيب عقله لَجُنّ، فلا إدراك ولا وعي ولا فهم، ﴿قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [المؤمنون: ٧٨] يا أيها الناس! فلا تشكرون الله على نعمه الظاهرة والباطنة، ولا على ما أكرمكم به من مرسلين يأتونكم لتعلموا ولتؤمنوا، ولينذروكم يوم التلاق، يوم هم شاخصون، ويوم هم معروضون على الله.