تفسير قوله تعالى: (وهو الذي يحيي ويميت وله اختلاف الليل والنهار)
قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٠].
الله جل جلاله هو الذي أحيانا بعد أن لم نكن، وأوجدنا من العدم، فنحن نشعر بأنفسنا أحياءً ننطق ونتحدث، ونسمع ونبصر، ونلبس ونعرى، ونشبع ونجوع، ونشكر ونلغي الشكر، وهذا دليل على وجودنا، فنحن نتحرك ونعمل، ألم يفكر الكافر والمشرك يوماً: من أنا؟ ومن الذي خلقني؟ وما الفرق بيني وبين تلك الجثة التي فقدت الروح وهذا الجماد؟ ولِمَ كنت أتحرك قبل أن أموت؟ وما هي هذه الروح؟ وكيف تحركت يدي ونطق لساني؟ وكيف أبصرت عيني وسمعت أذني؟ وكيف وعى قلبي؟ وكيف حفظت ما حفظني الله إياه من علوم في الشريعة أو في الدنيا؟ ومن الذي أعطاني هذا العقل أفكر فيه؟ فالمؤمن يقول على كل شيء: الله الخالق الرازق المنشئ، مالك كل شيء، والكافر يذهب فيقول كلاماً قلد فيه الآباء والأجداد، فتكلم بما لم يعلم، وهرف بما لم يعرف، وأخذ يقول كلاماً هو كلام المغرورين والمجانين، وكأنه ظن أنه سيخلد أبداً، فلم ينظر إلى من سبقه من أبٍ أو جد أو كبير أو صغير وقد كانوا يوماً أعظم سلطاناً وأقوى شباباً وأغنى جاهاً وأكثر ترفاً ومقاماً، ومع ذلك ذهبوا مع الذاهبين، فقد جاءا من التراب ثم ذهبوا إلى التراب، أفيظن أن ذلك قد كان ثم لا عيشة ولا بعثة ثانية؟ هيهات، فالله ينبئنا في دار الدنيا أن نفكر يوماً ونعتبر، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [المؤمنون: ٨٠]، فأما الحياة فرأيناها، وسل الأولين والآخرين ومن يدعون العلم اليوم: ما هي الروح؟ وقد سأل هذا السؤال الآباء والأجداد ومن عاصروا الوحي وعايشوا محمداً صلى الله عليه وسلم، وقال له الله: ﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، فإذا أخذنا نفسرها ونشرحها بأنها الحركة وبأنها الإدراك فيكون هذا شرح الجهلة وليس حتى شرح المبتدئين في رياض الأطفال، فالحركة ليست إلا أثراً لها، والنطق ليس إلا أثراً لها.
ولكن ما هي الروح؟ ما هو هذا الشيء الذي دخل أجسامنا وحرك عروقنا وأجرى دمائنا وتركنا نعي ونسمع ونعقل مائة سنة أو عشر سنوات أو أقل أو أكثر هذا ما لم يبلغه الأطباء ولا علماء تشريح والجسد، فهم يدخلون فيه جهالاً ويخرجون منه ولو بعد ألف عام جهالاً، وقد قال الله لنا: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: ٨٥]، وإياكم أن تطغوا وتتجبروا وتقولوا: قد علمنا، فلم تعلموا شيئاً، ولذلك علم الله نبينا ﷺ وهو أعلم الخلق على الإطلاق، فقال له: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، فالنبي ﷺ الخليل المختار كان في حاجة دوماً إلى المزيد من العلم، وموسى عندما سئل وهو من أنبياء الله عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: هل هناك أعلم منه، قال: لا، وإذا بالله الكريم يؤدبه على هذه الكلمة، فيقول له: بلى عبدنا خضر، فيتعبه ويسافر إليه ويذهب من المشرق إلى المغرب إلى مجمع البحرين والبحر المحيط في أرض طنجة كما قال الصحابة والتابعين، إلى أن وجد رجلاً عادياً في المنظر، يجلس على حشيش أخضر، يتعبد الله باكياً خاشعاً ذليلاً، ولا يزيد على أن يقول: رب اغفر لي يوم الدين، قال له: السلام عليكم، قال: من أنت؟ وأنى السلام في أرضك؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم.
فكان ما قص الله علينا في سورة الكهف.
والشاهد: أنه جاء عصفور صغير فنقر نقرة وأخذ قطرة ماء من البحر، فالتفت الخضر إلى موسى وقال: يا موسى! أترى أن هذا العصفور نقط من هذا البحر شيئاً؟ قال: لا، قال: ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة يأخذها هذا الطائر من هذا البحر! وهكذا سنقول دوماً ولو عشنا ما عاشه نوح وزدنا: ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: ١١٤]، فقد قالها لسيد الخلائق وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم، فكيف بنا؟! قال تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ﴾ [المؤمنون: ٨٠] فأحيانا وأوجدنا من العدم، وسيميتنا بعد، ثم يعيدنا في يوم البعث والنشور للحساب على الأعمال في الدنيا.
قال تعالى: ﴿وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ﴾ [المؤمنون: ٨٠] لله الليل والنهار واختلافهما، فهذا أسود مظلم إذا مددت يدك وخاصة في الليالي التي لا قمر فيها ولا هلال لا تكاد تراها، والنهار أبيض مشرق، وتارة هذا قصير وهذا طويل وتارة العكس، وهكذا يتعاقبان، ﴿لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ﴾ [يس: ٤٠]، فهما يختلفان في الأوقات والأزمان، وفي الألوان، وفي الأحوال، فمن الذي جعل السواد سواداً، والنهار بياضاً، والليل ليلاً والنهار نهاراً، وجعل هذا بياتاً وراحة وجعل النهار معاشاً وجهاداً وسعياً في الرزق وما إليه؟ إنه الله جل جلاله.
﴿وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ [المؤمنون: ٨٠] أليس لكم عقول تفكرون فيها يوماً؟ فمن أنت؟ وأين كنت قبل أن يتزوج أبوك بأمك؟ ومن كان يعلم بوجودك، ومن أين أتيت؟ ومن الذي أوجدك؟ وقل ذلك عن أبيك، ثم قله عن ولدك، ثم قله عن حفيدك، وما تقوله عن واحد هو الذي يقال عن جميع الخلق، ثم ترى الموتى ليلاً نهاراً في كل صلاة وفي كل صباح وفي كل مساء، فنصلي على الميتة، وعلى الطفل، ألم يخطر لك ببال أنه سيأتي دورك يوماً ويقول المؤذن: الصلاة على الجنازة؟ فماذا أعددت لهذه الساعة، وماذا أعددت لهذا الوقت، ثم بعد الدخول للقبر ماذا أعددت جواباً لسؤال الملكين الكريمين المكلفين من قبل الرب جل جلاله؟ فنحن ونحن أطفال ونحن كبار إذا هددت بسؤال أستاذ فإنك تخاف أن تجيب خطأ فستكون فضيحة، فتسهر وتذاكر حتى لا تفضح.
فكيف إذا علمنا أننا يوماً ما سنسأل من رسل الله الملائكة، ثم يعطون الجواب لله جل جلاله، هل كنت على الإسلام أو الكفر؟ وينبني على ذلك: أن تدخل النار أو الجنة، وأن تعذب أو تنعم إلى يوم القيامة.