تفسير قوله تعالى: (قل رب إما تريني ما يوعدون)
قال تعالى: ﴿قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ * رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٩٣ - ٩٤].
علم الله نبيه أن يدعو بذلك، قل يا محمد: رب لقد حققت وعيدك في هؤلاء الظالمين المشركين، وأنزلت بلاءك وعذابك ونقمتك وغضبك على هؤلاء، ﴿رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [المؤمنون: ٩٤]، رب فلا تجعلني ضمنهم؛ فلم أظلم يوماً، فأنا عبدك الذليل بين يديك، الخانع لجلالك وقدرتك، فالكل منك وإليك يفعلون ما تشاء، ولا تسأل عما تفعل، ولكنني أرجوك.
علمه الله أن يقول: ﴿رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٣] أي: إما أرأيتني ما وعدتهم به من عذاب، إذا أنزلت بهم عذابك ونقمتك وحضرت ذلك وشاهدته فلا تجعل ذلك العذاب مما يشملني، ولا تجعلني فيهم؛ لأن الله تعالى قال: ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥]، فعلم نبيه أن يقول لربه: لا تجعلني يا رب إذا ما أوعدت وحققت وعيدك وعذابك ونقمتك لهؤلاء وعشت وأدركت ذلك فلا تجعلني بينهم، وقد استجاب الله له فلم تكن محنة ولا عذاب على الصحابة والمسلمين أيام الحياة النبوية، وبعد الحياة النبوية ارتد من ارتد، ومنع الزكاة من منعها، وقتل عمر، وسم أبو بكر، وقتل عثمان، وقتل علي، وتحاربوا فيما بينهم أربع سنوات متصلة أريق فيها الكثير من الدماء، وحدث ما حدث بين الكبار من القوم، وكان ذلك من الله امتحاناً وفتنة وبلاء.
﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٥]، ولو أردنا أن نريك أن تعيش في واقع النقمة والعذاب والفتنة والبلاء فإننا على ذلك لقادرون، فيفعل الله ما يشاء، فيحسن للمسيء ويعاقب المحسن، فالله يفعل ما يشاء، والضمائر والقلوب بيد الله، فلا يشق القلوب إلا هو، ونحن نشهد للإنسان بحسب ما رأينا فنقول: فلان صالح، وأما ما في قلبه فلا يعلم هذا إلا الله.
﴿وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٥] يقول الله لنبيه ولعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم: لو أردنا أن نريك ذلك وأن نعيشك في بلائهم وفي نقمتهم لفعلنا، ولكن الله لم يفعل؛ تكرمةً لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتكريماً لأمة نبيه.
والله تعالى منذ أرسل محمداً في الأقوام جميعاً -صلى الله عليه وسلم- حفظهم وصانهم من أن يبتليهم بما ابتلى به الأمم السابقة: من مسخ، وخسف، وصيحة، وبلاء مما كان يبتلى به الأولون، ومن غرق شامل كما كان أيام نوح، فالصيحة تأخذ الحي والميت والكبير والصغير والصالح والطالح، من قذف بحجارة من فوق كما حدث لقوم لوط، ومن قتل بعضهم لبعض؛ ليتوب الله عليهم كما فعل مع بني إسرائيل عندما أشركوا وعبدوا العجل في قصة السامري التي قصها الله علينا، وأما الأمة المحمدية فهي محفوظة من ذلك وإن كان ليست محفوظة من مسخ العقول، فقد مسخت عقول كثير ممن نعايشهم، وقد قال ﷺ مخبراً عن قوم: (ألسنتهم ألسنة العرب وقلوبهم قلوب الأعاجم) أي: ليس فيه من الإسلام إلا اللسان، وأما عقولهم فكعقول الكفار، وتفكيرهم كتفكير الكافرين، وما أصدق هذا الحديث على عصرنا! فترى الرجل الحافظ العالم المتكلم الفصيح البليغ فإذا به يفاجئك بأنه من اتباع ماركس اليهودي، ومن اتباع الشياطين، وقد ترك المذاهب والإسلام كله إلا المذاهب الضالة الباطلة الوافدة من خارج حدود ديار الإسلام.
ويأخذ أحياناً يجادل ويحاور وهو يظن نفسه أنه على شيء، فيقول لك: بلى ما قال هذا صحيح، فالدنيا كانت في الأصل خلية واحدة ثم توالدت، ألا ترى الماء يكون راكداً وإذا بنا نجد فيه الديدان، فنقول لهذا: فالخلية الأولى التي تزعم من الذي أوجدها؟ وعندما يقف معناه أنه قد اعترف بعجزه وكفره وشركه، ونحن نقول: الخلية الأولى هي آدم، ولكن من الذي خلقه؟ وهل وجد هكذا سبهللا عبثاً؟ أليس الله هو الذي خلقه؟ أليس الله هو الذي نفخ فيه من روحه؟ والحشرة التي لا تكاد ترى إلا بالمجهر مكبرة على آلاف المرة تجدها في هذا الصغر فهي لا ترى بالعين المجردة، ومع ذلك لها قلب، ولها مصارين، ولها لسان، ولها سمع، ولها كل حركة!