تفسير قوله تعالى: (ادفع بالتي هي أحسن السيئة)
قال الله جلت قدرته: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ * وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٦ - ٩٨].
يقول الله جل جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: ٩٦] أي: قاوم السيئة وادفعها وردها على صاحبها بما هو أحسن نبلاً وأحسن فضلاً وأحسن مقابلة ومعاملة.
ويحتمل أن يكون معنى هذه الآية: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ﴾ [المؤمنون: ٩٦] أي: سيئة الكافرين، وسيئة العصاة المؤمنين، والبدو الجفاة من الأعراب، لكن قول الله تعالى: ﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٦] دل على أن هذا الدفع هو دفع سيئة الكافرين؛ إذ لا يقول كلمة كفر أو كلمة شرك أو كلمة فيها قلة أدب مع رسول الله ﷺ إلا من كان كافراً غير مسلم.
أي: لا تقاوم هؤلاء الكافرين ولا تحاربهم ولا تشهر السيف في وجوههم، بل ادفع سيئتهم بالحسنة وبالكلمة الطيبة وبالصبر إلى حين.
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ﴾ [المؤمنون: ٩٦].
أي: نحن أعلم بحال هؤلاء الكافرين وما يقولونه من تكذيب لك، وتكذيب لكتاب ربك، وشرك بإلههم، فالآية على ذلك كانت قبل آية السيف، وهكذا الأمر فالسورة مكية، ومكة لم يكن القتال فيها قد شرع بعد، فكان ﷺ يمر على أصحابه وهم يعذبون وينكل بهم فلا يزيدهم على قوله: صبراً صبراً، فمر على ياسر وولده عمار وزوجته سمية وهم يعذبون العذاب الشديد فما زاد على قوله لهم: (صبراً آل ياسر فإن موعدكم الجنة).
وهكذا استشهدت سمية وهي تصر على كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، ولكن هذا كان في مكة فقط، وبعد أن رحل وهاجر ﷺ إلى المدينة نسخ كل ذلك، وشرع الجهاد والحرب والقتال، وقد صبر المسلمون على أعداء الله اثنتي عشرة سنة وهم يكذبون وهم يقاومون، فاضطر النبي ﷺ لترك مكة المكرمة مسقط رأسه وكذلك أصحابه المهاجرون، وهي أحب ما تكون إليه وأعز ما تكون إليه، وكان يدعو قبل الهجرة فيقول: (رب كما أخرجتني من أحب البلاد إلي فأسكني أحب الديار إليك).
فكانت المدينة هي المنتخبة، وهي المرادة، وهي التي اختارها الله جل جلاله لنبيه وعبده وحبيبه ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وعلى ذلك نتلو هذه الآية ونحن نعتبرها قد نسخت بالقتال والجهاد والمقاومة، وقد كانت أول آية نزلت في شرع القتال هي قوله: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ﴾ [الحج: ٣٩]، وببقية الآية الواردة في الحرب والقتال: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [البقرة: ١٩١]، وكقوله: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾ [التوبة: ٣٦].
وقد شرع الحرب والقتال لقتال الوثنيين، وقتال الكتابيين، وحرب البغاة العصاة من المسلمين، وهذه الآية تشبه الآية الأخرى: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ [فصلت: ٣٤ - ٣٥]، وهذه الآية تبقى مثالاً أبداً للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك كان من فضائل الأخلاق الإسلامية: الصبر، الذي طالما دعا الله إليه بالعشرات من الآيات وفي سورة خاصة، ولكن للصبر حدوداً فإذا تجاوزت المعقول إلى الظلم بسفك الدم، وهتك العرض، وأكل أموال الناس بالباطل، والرغبة في الاستيلاء على الأوطان وديار الإسلام فهنا يجب القتال ويجب الدفاع ويجب الحرب على كل قادر لحمل السلاح من رجل وامرأة وولد بلغ سن التمييز أو كان يافعاً، وكان ﷺ يقبل الشباب للقتال وحمل السلاح عندما يبلغون أربع عشرة سنة.
ثم قال تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ [المؤمنون: ٩٧] أي: في صبرك على هؤلاء، وفي دعوتك لربك، وفي تبليغك لرسالته تعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وقل يا محمد: أعوذ بك يا رب من همزات الشياطين، والقول له وهو لكل مسلم من أتباعه إلى يوم القيامة، فقل أيها المسلم! ﴿أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ﴾ [المؤمنون: ٩٧] أي: أتعوذ وأتحصن بك، وأجعلك يا رب مرجعي ومآلي ومعاذي وحصني من همزات الشياطين.
والهمزات: جمع همز، والهمز الدفع، والهمز الوسواس، والهمز الإفساد، والهمز ما يخطر ببال الإنسان من وساوس الشيطان، والتخلي عن العبادة، أو الإفساد بين المؤمنين، أو نشر ما لا يليق بخلق المسلم.
وفي أول التفسير ذكرنا أنه يشرع أن تقول: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: من همزه، ونفثه، ووسواسه، وقد قاله صلى الله عليه وسلم.
واشتكى خالد بن الوليد رضي الله عنه لنبي الله عليه الصلاة والسلام فقال: يا رسول الله يصيبني الأرق عند النوم فلا أنام، فقال له عليه الصلاة والسلام قل عند النوم: (باسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه، وشر عباده، ومن همزات الشياطين وأن يحضرون).
فالشيطان يحرص على أن يشغل المؤمن عند النوم، وأن يؤرقه، وأن يخطر بباله أنواع الهواجس والوساوس والهمزات؛ لكي يسهر أكثر مدة ممكنة فينام عن صلاة الفجر، فلا يستيقظ إلا وحر الشمس قد مس ظهره وبدنه، فتفوت عليه صلاة الفجر في وقتها، هذه الصلاة التي تشهدها الملائكة، فالملائكة ينزلون متعاقبين عند بداية النهار وعند نهايته، فيشهدون عند ربهم: رب إننا نزلنا فوجدنا فلاناً يقرأ القرآن، وتركناه وهو يقرأ القرآن، فتكون شهادة الملائكة لها من الخير ولها من البر ولها من الأجر والثواب ما لها، وذاك معنى قوله تعالى: ﴿إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا﴾ [الإسراء: ٧٨].
ومن هنا يبقى التعوذ بالله من الشيطان علاجاً نفسانياً وعلاجاً طبياً روحانياً من سيد البشر ﷺ لكل من أرقه، ولكل من أصيب بما يخاف منه من الوساوس والهمزات وحضور الشيطان؛ لأن الشيطان إذا حضر فلا يحضر معه إلا الفساد والخصام والتخلف عن الطاعات.
وقد كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه يعلم أطفاله ويعلم تابعيه قراءة وتلاوة هذا الدعاء والتعوذ الكريم الذي دل عليه صلى الله عليه وسلم، وخالد بن الوليد عندما كان يصاب بالأرق كان يقول: (باسم الله، أعوذ بكلمات الله التامة)، فكانوا يقرءونها صباحاً عند الصباح ومساء عند النوم وهم على الفراش.
﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٧ - ٩٨] أي: أتعوذ بك يا رب، وأتحصن بجلالك، واستغيث بقوتك أن تدفع عني الشياطين صدوراً لأشخاصهم، وحضوراً لوساوسهم؛ لكي أتفرغ لعبادتك، وأتفرغ للدعوة لك، مبتعداً عنهم ومبتعداً عن حضورهم ووساوسهم، وإذا كان هذا لرسول الله المعصوم ﷺ فكيف بنا نحن الذي يقول عنا صلى الله عليه وسلم: (إن الشيطان ليجري من ابن آدم مجرى الدم).
ومن هنا أذن لنا وشرع لنا إذا قرأنا القرآن أن نتعوذ بالله؛ لكي نكون مع التلاوة حاضري الوعي والفهم والإدراك؛ لنفهم عن ربنا ما أمرنا بفعله وما نهانا عنه، ولنفهم عن ربنا ما يجب علينا أن نتحلى به من أخلاق فاضلة، ومن محاسن لا يليق سواها بالمسلم، ﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: ٩٨].