تفسير قوله تعالى: (فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم)
قال تعالى: ﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١].
يبقى هذا الحاجز وهو في قبره وهو لا يزال في الدنيا ميتاً إلى يوم النفخ في الصور النفخة الثانية كما قال ابن عباس، وكما قال مجاهد، وكما قال مفسرون هذه الفقرة الكريمة من هذه الآية؛ لأن النفخة الأولى تكون للموت، فلا يبقى على الأرض نفس ولا روح متحركة، ويبقى الله جل جلاله كما كان، وهو يقول: ﴿لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ﴾ [غافر: ١٦]؟ فلا مجيب، فيجيب نفسه: ﴿لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ [غافر: ١٦]، وهذا يوم يفنى فيه كل ما عليها، ويوم تصبح السماء عهناً منفوشاً، ويوم تهدّ الجبال، وتغور المياه، وتتساقط السموات، ويوم لا يبقى إلا الله جل جلاله.
والصور هو بوق الله أعلم بكبره وعظمته، والملك المكلف به حانٍ رأسه ينظر الأمر والإشارة لينفخ النفخة الأولى عند الموت، ثم يبقى كذلك بعد أن يفنى معها، ثم يبعث فينفخ النفخة الثانية، وهي المقصودة في هذه الآية، فيبقى الحاجز بين الموت وبين البعثة الثانية زمناً الله أعلم بقدره وأعلم بمدته، فإذا نفخ في الصور قاموا في هذه الحالة وكل يقول: نفسي نفسي، ﴿يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ﴾ [عبس: ٣٤ - ٣٧]، ﴿وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا﴾ [المعارج: ١٠]، فلا يبحث أب عن ولد، ولا ولد عن أب ولا زوج عن زوجة ولا زوجة عن زوج، وإنما كل يقول: نفسي نفسي، ويقول ذلك حتى الأنبياء عندما تذهب الخلائق إليهم مستشفعين من آدم إلى خاتم أنبياء بني إسرائيل وكل يقول: نفسي نفسي، ثم يأتون إلى نبينا ﷺ فيقوم ويسجد تحت ساق العرش ويقول: رب أمتي أمتي، فيكون له نصيب عظيم، والشفاعة العظمى ينفرد بها بين كل الخلائق.
وهو -كما سماه الله تعالى-: موقف عظيم، يوم يقال للرجل: قم خذ حقك من ولدك، وخذ حقك من أخيك، وخذ حقك من حميمك وصديقك، فتجده يبادر ولا يتنازل ولا يتسامح، وكل ما يهمه أن ينجو هو من عذاب الله ومن ناره، وبعد أن يدخل المؤمنون الجنة وتطمئن نفوسهم عند ذلك يتساءلون: من أنت؟ من أنت؟ فيتعارف الآباء والأولاد والأقارب في الآخرة كما كانوا متعارفين في الدنيا، وقد يمرون على من كان يضلهم وهو في جهنم فيقولون له: كنا نظنك ونظنك، مما قص الله علينا في أكثر السور وأكثر الآيات.
فالله ينذرنا ويحذرنا غضبه ويحذرنا عقوبته ما دمنا أحياء نملك أمر أنفسنا للتوبة والعودة.
﴿فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ﴾ [المؤمنون: ١٠١] فلا ينفع نسب ولا سبب، ولا يسأل أحد عن أحد، فالكل يقول: نفسي نفسي، وهنا يقول ابن كثير في تفسيره وفي كتبه: إلا من مات على التوحيد وهو من السلالة النبوية، فقد ورد في الصحيح وورد في مسند أحمد عن جماعة من الأصحاب: عن المسور بن مخرمة، وعن أبي سعيد الخدري، وعن عمر بن الخطاب، وعن أبي هريرة رضي الله عنهم جميعاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل نسب وحسب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، وعمر خطب من علي ابنته أم كلثوم، فهنأه من هنأه بما تعاهدوا وتعارفوا عليه، وإذا به بعد أن تزف إليه يقول: ما هنأتموني، فيقولون: قد قلنا لك: بارك الله لها فيك وبارك لك فيها، فقال: والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله ﷺ يقول: (كل نسب وسبب ينقطعان يوم القيامة إلا نسبي وسببي)، فأرادت أن يرتبط نسبي وسببي بالنبي الله صلى الله عليه وسلم، والحديث أصله في البخاري، ورواه بأطول من ذلك أحمد في المسند، والبزار في المسند وأصحاب السنن.
وقد فسر البعض السبب والنسب هنا أنه سبب الإسلام ونسب الإسلام، والنبي ﷺ زوجاته أمهات المؤمنين، وفي قراءة: (وهو أبوهم)، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا لكم والا)، وقال لـ أنس وناداه: (يا ولدي) وقد كانت أحب إلى أنس من حمر النعم.


الصفحة التالية
Icon