تفسير قوله تعالى: (إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا)
يقول الله بعد ذلك: ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٥].
فهم فساق بحكم الله، فتمنع شهادتهم، وتزول تزكيتهم، ﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا﴾ [النور: ٥] لم يغلق الله باب رحمته على المؤمن مهما صدر منه، ومع هذا الحكم من الجلد ومن التفسيق ومن إلغاء الشهادة إذا هؤلاء تابوا إلى الله بعد ذلك وأنابوا وأصلحوا، ومعنى الإصلاح: ألا يعودوا لاتهام أحد، ولا لقذف محصنة ولا محصن، فهؤلاء يعتبرون قد تابوا، فإذا تابوا ﴿فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النور: ٥] يغفر الذنوب ويرحم العصاة، وباب رحمته مفتوح باستمرار، ويمد يده في النهار لمستغفري النهار، ويمد يده بالليل لمستغفري الليل، ولكن الناس يفرون ممن يرحمهم، ويغفر ذنوبهم، وإلا فالله يغفر الشرك ويغفر الكفر به، والإسلام يجب ما قبله فكيف بغير ذلك، ولذلك كان ﷺ مع عصمته وجلالته يقول: (إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة) يعلمنا بذلك أن نستغفر الله، ولذلك ورد في الأذكار والأوراد أن يستغفر الإنسان خلف كل صلاة، وأن يجدد الاستغفار عند كل وقت: عند النوم، وعند الصحو، وعند النهاية من الصلوات، وفي كل ما يصدر منه ويظنه معصية ولو وهماً ليستغفر الله؛ عسى الله أن يغفر ذنوبه، وعساه إن مات يموت على مغفرة، ويموت على رحمة.
وهذه الآية للقذفة الذين يقذفون المحصنات، وأما الذي يقذف الحدث البكر العزب غير المحصن فهذا يعزر؛ لأن قذف المحصن ليس كقذف العزب المحصن، فهناك حق زوجته، وهناك حق أولاده؛ ولأن الجريمة لو ثبتت وقد أعلنها هؤلاء لكان جزاؤها الرجم وهي عقوبة شديدة، وأما العزب فالعقوبة الجلد، والتغريب عاماً، وشتان بين مائة جلدة وتغريب عام، وبين الرجم والنفي من الحياة كلها.
لذلك فإن جزاء قذف المحصنين والمحصنات ثمانون جلدة، وقذف البكر والعزب أنثى كان أو ذكراً، جزاؤه التعزير، والتعزير لا يزيد عند بعض الأئمة على عشر جلدات، ولكن للحاكم أن يقدر مقدار ما صدر عنه من إيذائه لهذا الشاب أو لهذه الشابة، كأن يريد مصاهرة إنسان في ابنته فيأتي هذا ويقول: فلان أنا رأيته زانياً، فيفسد عليه المصاهرة التي كان يمكن أن تكون ربحاً له في الدنيا والآخرة، وقد يقذف البنت فيقول: تأخذ فلانة وأنا رأيتها مع فلان، وهو كاذب، فهذا ينظر الإمام فيه ويرى رأيه.
وقد يكرر التعزير بمقدار ما تأذى به المقذوف، والعدل قامت عليه السموات والأرض، وبه جاء الإسلام، ولذلك كان القرآن والسنة المطهرة هما العدل المطلق بين كل البشر: مؤمنهم وكافرهم، صديقهم وعدوهم على حد سواء.
﴿إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ﴾ [النور: ٥] أي: من بعد القذف ومن بعد قيام الجلد، ولو تاب قبل الجلد فذلك لا يعفيه من العقوبة، ولا يعفيه من الحد، والضابط في ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (تعافوا قبل أن تأتوني) أي: فليعف أحدكم ذنب الآخر في حد قبل أن تصلوا إلي، أما إذا وصلت التهمة إلى الحاكم فلا عفو، فلابد من قيام الحد.


الصفحة التالية
Icon