سبب نزول آيات اللعان
لما نزلت الآية جاء سعد بن معاذ إلى رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله، أهكذا نزلت الآية؟ أيرى أحدهم فاحشة في زوجته فيتركها إلى أن ينتهي الزاني منها، وهو يبحث عن أربعة شهود؟! ولا يكاد يجدهم حتى يكون الزاني قد أتم حاجته، وفي هذه الحالة إن سكت سكت عن بلاء عظيم، وإن قتل قُتِل، وإن اشتكى جلد حد القذف، فيقول له النبي عليه الصلاة والسلام وكان الأنصار حاضرين: ألا ترون يا أيها الأنصار إلى سيدكم كيف يقول؟ فقالوا له: يا رسول الله، اعذره ولا تؤاخذه فهو رجل عرف بيننا بالغيرة، فما تزوج في حياته إلا بكراً، وإن طلقها فلا يجرؤ أحد على الزواج منها، فقال سعد: والله إني يا رسول الله لأعلم أن هذا أنزل عليك، وأنه الحق من ربك، وآمنت وسلمت، ولكن كيف؟ إذا سكت الإنسان سكت على بلاء، وإذا قتل قتلتموه، وإذا قذف ضربتموه! قال هذا عند نزول آيات القذف.
وكان سبب نزول هذه الآيات أن رجلين أحدهما يقال له: عويمر العجلاني، والثاني يقال له: هلال بن أمية وقع لكل منهما قصة، فأما هلال فهو أحد الثلاثة الذين خلفوا عن حضور معركة تبوك، وأدبوا بالهجران خمسين يوماً متصلة، وقد رجع هلال من صلاة العشاء مع رسول الله وإذا به وهو يدخل الدار يرى على بطن زوجته شريك بن سحماء، يقول هلال: رأيت ببصري، وسمعت بأذني.
فكره النبي ﷺ ما سمع من هلال، وبان ذلك في وجهه صلى الله عليه وسلم، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول له: (بينة أو حد في ظهرك) أي: إما أن تأتي بأربعة شهود تشهد لك بالذي زعمته من قذف امرأتك، وإلا فالحد ثمانون جلدة على ظهرك، فأخذ يقول هلال: والله لم أكذب يا رسول الله! فماذا أصنع؟ كيف آتي بالأربعة شهداء؟ والنبي ﷺ يكرر: (بينة أو حد في ظهرك).
وإذا بنفس المجلس تأخذ البرحاء رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام وينزل الوحي، فيظهر ذلك في وجهه من شدة ما تأخذه حتى يعرق وجهه صلى الله عليه وسلم، ويسيل منه مثل الجمان عرقاً، فانتظر الكل ساكتاً، وإذا برسول الله عليه الصلاة والسلام ينفك عنه جبريل، وينزل الوحي بما نزل: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور: ٦] إلى آخر الآيات.
وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يأمر أن تحضر زوجته واسمها خولة، ويأمر بحضور شريك المتهم به، فحضر الثلاثة، وكان ذلك بعد صلاة العصر، وكان القوم لا يزالون حاضرين، وإذا بالنبي عليه الصلاة والسلام يقول لـ هلال: (أتقسم بالله أربع شهادات؟ قال: نعم) فأخذ يقسم هلال بالله صادقاً، وأنه ما كذب على زوجته خولة، وما كذب على من اتهمه بها، وعند انتهائه من الشهادة واليمين الرابع قال له صلى الله عليه وسلم: هذه الموجبة، فاتق الله، وأخذ يعظه: إن عذاب الآخرة لأشد من عذاب الدنيا، وإذا بـ هلال يصر، فلعن نفسه وقال: إن لعنة الله عليه إن كان كاذباً على زوجته خولة، وعلى من اتهمها به وهو (شريك)، ثم أتي بالزوجة فأقسمت أربع شهادات والنبي يقول لهما معاً: (إن الله يعلم إن أحدكما كاذب، فهل فيكما تائب؟) فأشهدت الله مقسمة بأن زوجها هلالاً يكذب عليها، وأنا ما زنت لا مع شريك ولا مع غيره، قالت: إنما كان هلال غيوراً، وكان يسمر معنا شريك، فكان ذلك يؤذيه ويؤلمه، فأراد إبعاده بما اتهمها واتهمه به.
وعند الخامسة قال لها رسول الله نفسه عليه الصلاة والسلام: (هذه الموجبة) أي: التي توجب الغضب والعذاب، ولعذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا، فتوقفت قليلاً حتى قال الرواة: كادت أن تنكل وتنكص عن أيمانها، وتعترف بما صنعت وبما فعلت، وإذا بها بعد لحظات وهي ساكتة قالت: لن أفضح قومي سائر اليوم، وإذا بها تقول إن غضب الله عليها إن كان زوجها هلال صادقاً.
وكان مما اتهمها به هلال أنه لم يقربها من أربعة أشهر، وأنها حامل وهو ينتفي من الولد ومن الحمل زيادة على الاتهام، فأمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتفريق بينهما وبفسخ النكاح لا بطلاق، ولم يجعل لها نفقة، ولم يجعل لها سكناً، وقال: (إن ولدت فولدها ينسب لها ولا ينسب لأبيه، ومن قذف الولد أو قذف المرأة بعد ذلك يحد حد القذف) أي: كما أن الأيمان التي أقسمت درأت ودفعت عنها الحد فيدفع عنها الاتهام والقذف والشتيمة، ويبقى الأمر بينها وبين الله، وأما الولد فينسب لأمه.
ثم قال عليه الصلاة والسلام: (انظروا إن أتت به أورق جعداً حمش الساقين دقيقهما فهو لـ هلال، وإن أتت به أكحل العينين، سابغ الأليتين فهو لـ شريك).
وإذا بأهل المدينة يرقبون ولادتها ليروا ما قاله النبي عليه الصلاة والسلام من صفة الوليد، وإذا بها تلد، قالوا: وحضر ولادتها أكثر ما يمكن من أهل المدينة، وإذا بالوليد أشبه ما يكون بـ شريك، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (لولا ما سبق من حكم الله، ولولا ما سبق من الأيمان لكان لي معها شأن).
ولكن حكم الله كان هكذا، ويبقى الأمر بينها وبين ربها، وبينه وبين ربه، قال الرواة: كبر هذا الوليد وشب وكان من أنجب الناس، ثم كان أميراً على مصر بعد ذلك.
أما عويمر العجلاني فإنه أرسل لرسول الله ﷺ مع ابن عمه عاصم، فقال لرسول الله: يا رسول الله! إن عويمراً يقول ويقول، فكره هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام، وإذا بـ عاصم يرجع لابن عمه ويقول: ما لقيت منك اليوم من شر، لقد لقيت البلاء، وقد تجهم وجه رسول الله من سماع كلامي وكرهه، وإذا بـ عويمر يحضر بنفسه، فقال نفس ما قال هلال، واتهم زوجته كما اتهم هلال زوجته، وكان صنع رسول الله ﷺ معهما كصنعه مع هلال وزوجته خولة.
وهذا ما يسميه الفقهاء باللعان، واللعان فعال، أي: تلاعن بين اثنين، وهي ملاعنة بين الزوج والزوجة، وهو يقوم مقام الشهود الأربعة.
وهنا تكون السورة الكريمة قد بينت حكم ثلاث جرائم لها حدود ولها شهادات: حد الزنا، وحد القذف، وحد اللعان، وحكم اللعان يكاد لا نسمعه في الأرض منذ قرون، وإن كان بعض شيوخنا من قضاة العدل في المغرب حكم باللعان في قضية، فكان سبب عزله؛ لأن قرار الدولة وقانونها يمنع اللعان، ويقول: قد كثر الفساد وقلت الثقة؛ فهذا لم يبال بذلك، فحكم باللعان وأثبته وقام بحكم بحد من حدود الله، فكان سبب عزله فلم يبال.
ثم بعد ذلك قال تعالى: ﴿وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةُ﴾ [النور: ٨ - ٩] أي: الشهادة الخامسة، أي: اليمين والقسم الخامس: أن تشهد ﴿أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ [النور: ٩].


الصفحة التالية
Icon