تبرئة الله تعالى لأم المؤمنين عائشة مما رميت به
وسأل رسول الله أسامة بن زيد مولاه ابن مولاه عما يعرفه عنها، وسأل علي بن أبي طالب، فقال لـ أسامة: ماذا تعلم يا أسامة عن عائشة؟ قال: يا رسول الله! والله ما سمعت إلا خيراً، والله ما رأيت إلا خيراً.
وسأل علياً فقال له علي: يا رسول الله! النساء غيرها كثير، واسأل الجارية تصدق، فسأل رسول الله جاريتها وخادمتها وكان اسمها بريرة، وإذا بـ بريرة تقول: يا رسول الله! والله ما أعلم إلا خيراً، ولا رأيت إلا خيراً، وإن يكن شيء في عائشة فهو أنها كانت تعجن العجين فتأتي الداجن فتأكله.
أي: هذا كل ذنبها.
فسأل زوجاته أمهات المؤمنين الأخريات -أي: سأل الضرائر- سأل زينب بنت جحش، قالت عائشة: وهي التي كانت تساميني من ضرائري، فقالت زينب: يا رسول الله! أحمي سمعي وبصري عن أن أقول نظرت سوءاً، وعن أن أقول: سمعت سوءاً، والله ما أعلم عليها إلا خيراً.
ولكن تأتي أختها حمنة بنت جحش زوجة طلحة بن عبيد الله فأخذت تقذفها وأخذت تتهمها انتصاراً لأختها عليها.
وكذلك مسطح بن أثاثة أخذ يتهمها، وأخذ يشيع ذلك، وحسان بن ثابت شاعر النبي عليه الصلاة والسلام أخذ يتهمها وأخذ يقذفها ويقول ما يقول الناس.
وأما الذي تولى كبر المهمة وتولى إشاعتها والتشنيع بها فهو: عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين، الذي قال الله عنه: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١١]، فقد عاش منافقاً ومات منافقاً وإلى لعنة الله والجحيم الدائم.
تقول عائشة: كنت أبكي ليلي وأبكي نهاري، حتى ظننت أن البكاء فالق كبدي، وإذا بأمي تريد أن تسليني فتقول لي: يا بنيتي ما كانت امرأة وضيئة حسناء عند زوج يحبها ولها ضرائر إلا وحسدنها، وشنعن عليها، فما يزيدني ذلك إلا بكاءً.
وبينا هم على هذه الحال صعد النبي عليه الصلاة والسلام المنبر يوماً فقال للناس: (من عذيري في هؤلاء الذين يشتمون عرضي ويقذفون أمهات المؤمنين) فوقف سعد بن معاذ فقال: يا رسول الله! إن كان هذا منا الأوس قتلناه، وإن كان من الخزرج فسنفعل به ما تأمر، فقام سعد بن عبادة وقال: والله لن تقتله إلا لأنه ليس من عشيرتك، فقام أسيد ين حضير وقال: إنك منافق تدافع عن المنافقين! وكادوا يقتتلون بالسيوف في المسجد النبوي والنبي على المنبر فأسكتهم.
ثم ذهب إلى عائشة فدخل عليها فوجد عندها أباها وأمها في الغرفة التي هي فيها، فقال لها: (يا عائشة، إن كنت قد ألممت بذنب فاعترفي)، تقول عائشة: كانت الدموع جارية على عيني مدراراً، وإذا بي عندما أسمع رسول الله يقول لي: اعترفي، يرقأ دمعي وكأنني لم أدمع قط، والتفتت إلى أبيها فقالت: يا أبت، أجب عني رسول الله، فقال لها: وبماذا أجيبه؟ وسكت، فقالت لأمها: يا أمتاه، أجيبي عني رسول الله، قالت: بماذا أجيبه، وسكتت، فالتفتت هي تجيب فقالت: إنني إن قلت نعم -والله يعلم أني بريئة- سركم ذلك، وإن قلت: والله لم يكن ذلك لكذبتموني ولما صدقتموني، قالت: ولم أكن حافظة إذ ذاك من القرآن الكثير، ونسيت اسم يعقوب أبي يوسف فقلت: ولا أقول لك إلا كما قال أبو يوسف: ﴿فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ [يوسف: ١٨].
قالت: بينما نحن كذلك وإذا برسول الله ﷺ يأخذه رحضاء الوحي، وتأخذه الشدة التي تأتيه عادة عند الوحي، وإذا به يتفصد جبينه عن عرق كأنه الجمان واللؤلؤ، ثم يفيق ضاحكاً ويقول: (أبشري يا عائشة، قد نزلت براءتك من الله) ففرح أبوها وفرحت أمها، وقالا لها: اشكري رسول الله، قالت: والله لا أشكره ولا أشكركما، ولا أحمد إلا الله الذي برأني.
قالت: والله ما كان ليخطر ببالي أن يتكلم الله عني بعشر آيات وحياً في كتابه، وإن كنت على يقين أن الله سيبرؤني، ولكن كنت أظن البراءة ستكون رؤيا نبوية، فيرى النبي ﷺ شيئاً في منامه فيقصه، وأما أن يقول الله عني ما قال فقد كنت أحقر في نفسي من أن يكون ذلك.
وبهذا أصبحت عائشة بريئة بنص القرآن، ومن قذفها بعد ذلك يعتبر كافراً حلال الدم.
ومن شتم أباها يعزر ولا يكفر؛ لأن الله لم يذكره في القرآن كما ذكر أم المؤمنين عائشة، وأما عائشة فقد برأها الله وطهرها وأشاد بها، فالذي يقذفها بعد ذلك يكون قد كذب الله، وكذب القرآن وكذب الوحي، وهنا يبقى معنى قوله تعالى: ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: ١١].


الصفحة التالية
Icon