معنى قوله تعالى: (عصبة منكم)
قوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: ١١].
أي: لم يكونوا يهوداً ولا نصارى، ولكن كانوا جماعة منكم، ومن هذه الجماعة عبد الله بن أبي ابن سلول الذي تولى كبره، وكان من أهل المدينة، وممن كان يدعي الإسلام وهو كاذب منافق.
وممن قال ذلك مسلمون صحابة، ولكن أخذتهم الغفلة والسذاجة والبلاهة، ونسوا مقام رسول الله ﷺ ومقام عرضه، فذهبوا يكررون ما قاله المنافقون، وكان منهم حسان وحمنة ومسطح بن أثاثة.
وقد دخل أحد التابعين الكبار على السيدة عائشة -وكان بينه وبينها حجاب- فوجد عندها حساناً، فقال: يا أم المؤمنين! أتسمحين لـ حسان أن يدخل عليك وهو الذي قذفك، وهو الذي جلد من أجلك حد القذف، وإذا بها تقول: إن حساناً كان ينافح عن رسول الله، إن حساناً كان ينصب له رسول الله ﷺ منبراً ويقول له: (اهجهم -أي: الكفار- وروح القدس معك).
إن حساناً كان فيما قال: وإن أبي ووالده وعرضي لعرض محمد منك وقاء وقد حُدّ، وأرجو أن يكون الله قد تاب عليه، ومع ذلك ماذا تريد أن يكون أكثر من ذلك؟ أهناك عذاب أشد مما يعيش فيه -وكان قد عمي في آخر أيامه-، فقالت: ألا يكفي هذا العذاب والمحنة التي عاش فيها؟ دعوه لعل الله أن يكون قد تاب عليه.
وأما مسطح فقد كان من أهل بدر، ومع ذلك جلده رسول الله عليه الصلاة والسلام، ولم يقل عنه ما قاله عن حاطب بن أبي بلتعة عندما خان المسلمين غفلة، وكتب يتجسس عن جيش النبي صلى الله عليه وسلم، وحاول عمر أن يقتله، فوقف على رأس رسول الله عليه الصلاة والسلام وسل سيفه من غمده، وقال: يا رسول الله! دعني أضرب عنق هذا المنافق، وإذا بالنبي ﷺ يقول له: (لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال: اصنعوا ما شئتم فقد غفرت لكم) فلم يقتله، ولم يحكم عليه بردة ولا بجاسوسية ولا بخيانة، وإنما اعتبرها غفلة وبلاهة.
وأما هذا فجلده مع كونه من أهل بدر.
وقوله: ﴿عُصْبَةٌ مِنْكُمْ﴾ [النور: ١١] العصبة: الجماعة، ولا مفرد لها من لفظها.
﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ﴾ [النور: ١١].
أي: لا تظن يا محمد أن هذا كان شراً لك، ولا تظني يا عائشة، ولا تظن يا أبا بكر، ولا تظني يا أم رومان، ولا تظنوا يا أيها المسلمون جميعاً أن هذا الذي حدث لمدة شهر كان شراً لكم بل هو خير لكم، حيث زيد فيه مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وطهر الله عرضه، وبرأ ساحته، وطهر زوجته، وبرأ ساحتها، وطهر أبا بكر من أن تكون ابنته كذلك، وهو الذي سيكون الخليفة الأول بعد ذلك، وهكذا كان الخير شاملاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأهل بيته ولأمهات المؤمنين، ولـ أبي بكر صاحبه الأول، ولـ أم رومان زوجته، كما قال تعالى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [البقرة: ٢١٦].
وقديماً قال العرب: رب ضارة نافعة! وقد يأتي الخير عن طريق الشر؛ ﴿لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ﴾ [النور: ١١].
وهكذا كان الخير في التبرئة والتطهير الإلهي، وكان الخير في كذب أولئك وكشف عوارهم، ففضحوا على رءوس الخلائق، وجلدوا على رءوس الخلائق.
﴿لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ﴾ [النور: ١١].
لكل منهم حده من الجلد في الدنيا، ولعذاب الله -إن شاء الله- أشد وأنكى وأبقى، وقد يكون قد تاب على المؤمنين لغفلتهم، وقد أوصى بعد ذلك بـ مسطح كما ستأتي به الآية.
وأما المنافق ابن سلول فكان خزيه وعذابه وحده زيادة على عذاب الدنيا العذاب العظيم بالخلود في جهنم والسعير، وهو الذي تولى كبره كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النور: ١١].