فنفوسهم بقيت على طهرها لم تدنس بشيء، ونفوسنا لا تخلو من تدنس، والموفق من داوم على غسلها بالتوبة وتحليتها بالصالحات.
وكمالهم فطري، ويبلغون فيه- بعملهم المتواصل، وعصمتهم الربانية- إلى الغايات التي لا تنال، وكمالنا ليس كذلك في الأمور الثلاثة: الفطرة، والعمل المتواصل، والعصمة.
علمنا هذه بقوله تعالى: ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ [إبراهيم: ١١].
فبالنظر الصحيح فيما مَنَّ الله عليهم به، ندرك أنهم ليسوا مثلنا، وإن ساوونا في الخلقة البشرية.
٥ - وعلمنا: ألا ننظر إلى ظواهر الأمور دون بواطنها، وإلى الجسمانيات الحسية دون ما وراءها من معان عقلية، بل نعبر من الظواهر إلى البواطن، وننظر من المحسوس إلى المعقول، ونجعل حواسنا خادمة لعقولنا، ونجعل عقولنا هي المتصرفة الحاكمة بالنظر والتفكير.
علمنا هذا بقوله تعالى: ﴿قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ﴾ [المائدة: ١٠٠]. فلا ينظر إلى بهرجة (١) الكثرة، ولكن إلى حقيقة وحالة الشيء الكثير فيعتبر بحسبهما.
وبقوله: ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ كَلَّا﴾ [الفجر: ١٥، ١٦]. فلا يجوز أن نغتر بالمال، والقوة، والجاه، وأنواع النعيم إذا سيقت إلينا فنحسب أنها هي نفس الكرامة الربانية التي دعينا إلى العمل لنيلها، بل إنما نعدها كذلك إذا كان معها التوفيق إلى شكرها بالقيام بحقوقها، وصرفها في وجوهها.
ولا نغتر بحالة الضيق، والعسر، والضعف، فنحسب أنها إهانة من الله لصاحبها؛ بل علينا أن ننظر إلى ما معها من صبر ورجاء وبر، أو ضجر ويأس وفجور.. فنعلم حينئذ أنها مع الأولى للتمحيص والتثبت، ومع الأخيرة للزجر والعقاب بعدل وحكمة من أحكم الحاكمين.
وبقوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾ [الكهف: ١١٠].
فعلمنا أنه بشر، ولكنه خصص بالوحي إليه بتوحيد الله، وبما يقتضيه مقام الإيحاء إليه من طهر وكمال، حتى لا يحجب عنا بشريته التي نشاهدها بأبصارنا كمال حاله ومنزلته الذي ندركه ببصائرنا.
عقيدة:
الرسول إنسان ذو روح طاهرة نورانية علوية؛ بها تَأَتَّى له تلقي الوحي من الملائكة.
وذو جسد بشري تجري عليه ضروريات البشرية الخلقية دون نقائصها الكسبية، لأنه

(١) يقال: بَهْرَجَ الكلام وغيره: زيفه، ورده لزيفه (المعجم الوسيط: [ص: ٧٣]).


الصفحة التالية
Icon