فهجرنا ذلك كله، ووضعنا أوضاعا من عند أنفسنا، واصطلاحات من اختراعاتنا، خرجنا في أكثرها عن الحنيفية السمحة إلى الغلو والتنطُّع (١)، وعن السنة البيضاء إلى الأحداث والبدع، وأدخلنا فيها من النسك الأعجمي، والتخيل الفلسفي ما أبعدها غاية البعد عن روح الإسلام، وألقى بين أهلها بذور الشقاق والخصام، وآل الحال بهم إلى الخروج من أثقال أغلالها، والاقتصار على بقية رسومها للانتفاع منها، ومعارضة هداية القرآن بها.
٤ - وعرض القرآن علينا هذا الكون وعجائبه ونبهنا على ما فيه من عجائب الحكمة ومصادر النعمة، لننظر ونستفيد ونعمل.
فهجرنا ذلك كله إلى خريدة (٢) العجائب، وبدائع الزهور، والحوت والصخرة، وقرن الثور!
٥ - ودعانا القرآن إلى تدبره وتفهمه والتفكر في آياته ولا يتم ذلك إلاّ بتفسيره وتبيينه، فأعرضنا عن ذلك وهجرنا تفسيره وتبيينه.
فترى الطالب يفني حصة كبيرة من عمره في العلوم الآلية، دون أن يكون طالع ختمة واحدة في أصغر تفسير كتفسير الجلالين مثلاً، بل يصير مدرساً متصدراً ولم يفعل ذلك!
وفي جامع الزيتونة- عمره الله تعالى- إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع في درس تفسير، فإنه -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية، بين الشيخ عبد الحكيم وأصحابه، في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومات أياماً أو شهوراً؛ فتنتهي السنة وهو لا يزال حيث ابتدأ أو ما تجاوزه إلاّ قليلاً دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير. وإنما قضى سنته في المماحكات بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات. كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية.
فهذا هجر آخر للقرآن، مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن!
وعلمنا القرآن أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- هو المبين للناس ما نزل إليهم من ربهم، وأن عليهم أن يأخذوا ما آتاهم، وينتهوا عما نهاهم عنه (٣)، فكانت سنته العملية والقولية تالية للقرآن. فهجرناها كما هجرناه، وعاملناها بما عاملناه، حتى إنه ليقل في المتصدرين للتدريس - من كبار العلماء في أكبر المعاهد- من يكون قد ختم كتب الحديث المشهورة كالموطأ والبخاري ومسلم ونحوها، مطالعة، فضلاً عن غيرهم من أهل العلم، وفضلاً عن غيرها من كتب السنة (٤).
(٢) الخريدة: اللؤلؤة لم تثقب. (المعجم الوسيط: [ص: ٢٢٥]).
(٣) قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧].
(٤) وخرج الإمام بعد هذه التبعة بأن أتم القرآن الكريم تفسيراً وأتم موطأ مالك شرحاً (حاشية المطبوع: [ص: ٢٨٤]).