ولقد كانت الخطبة النبوية، والخطب السلفية كلها على هذا المنوال، تشتمل مع الوعظ والتذكير على ما يقتضيه الحال.
وأما هذه الخطب المحفوظة المتلوة على الأحقاب والأجيال فما هي إلاّ مظهر من مظاهر قصورنا وجمودنا.
فإلى الله المشتكى وبه المستعان.
...
الحق والبيان في آيات القرآن
﴿وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (٣٣)﴾ [الفرقان: ٣٣].
لما رد تعالى اعتراضاتهم، وأبطل شبهاتهم.. أخبر تعالى بأنه لا يزال القرآن كذلك: يدمغ باطلهم بحقه فيزهقه، ويصدع غشاء تمويههم بصادق بيانه فيمزقه؛ لطمأنة قلب نبيه- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وتثبيته ووعد له بدوام النصر والتأييد.
(المثل) هو الشبه. هذا أصله، ثم يطلق على الكلام الذي قيل أول ما قيل في مقام، ثم لحسنه وإيجازه حفظ وجرى على الألسنة، وصار يقال في كل مقام يشابه مقاله الأصلي الذي قيل فيه أولاً لمشابهة المقام الثاني للمقام الأول.
ثم صار يطلق أيضاً على كل كلام فيه بيان لشيء وتصوير له، سواء أطابق ذلك البيان والتصوير الواقع وأتى بالحق، أم لم يطابق الواقع ولم يأت الحق. وهذا المعنى هو المراد هنا.
فإن المشركين جاءوا بكلمات في حق الله تعالى، وفي حق كتابه، وفي حق ملائكته، وفي حق نبيه لم يطابقوا فيها الواقع، ولا أتوا فيها بحق:
كقولهم في الله وملائكته: ﴿لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا﴾ [الفرقان: ٢١].
وفي نبيه: ﴿مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧].
وفي القرآن: ﴿أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا﴾ [الفرقان: ٥]. ﴿لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً﴾ [الفرقان: ٣٢].
فهذه هي أمثالهم التي ضربوها فضلوا.
وجاء القرآن بعد كلماتهم الباطلة بكلمات الحق الدامغة مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْض﴾ [الفرقان: ٦]. ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ﴾ [الفرقان: ٧]. ﴿كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢].
فهذه هي أمثال الله التي جاءت بالحق وأحسن تفسيرا.


الصفحة التالية
Icon