﴿إِلَّا مَنْ تَابَ﴾ استثناء من يفعل، استثناء متصلاً لأن الذي يتوب من جملة من فعل، والفاء في ﴿فأولئك﴾ تفريعية، لتفرع التبديل على التوبة، وعاطفة الجملة أولئك على جملة استثنى، التي قامت مقامها إلا. كما عطفت عليها الجملة الأخيرة جملة وكان، ونظير هذا من يقم منكم فله درهم إلاّ زيداً فله درهمان.
المعنى:
يستثنى من ذلك الوعيد الشديد بمضاعفة العذاب والخلود فيه مهاناً، من رجع إلى الله عن الشرك وقتل النفس والزنا بالتوبة الصادقة، وشفع توبته بالعمل الصالح الدال على صدق تلك التوبة، فهؤلاء بتوبتهم وعملهم الصالح يقلبهم الله ويجعل مكان سيئاتهم حسنات، وكان الله غفوراً يتجاوز عن ذنوب عباده؛ فقد تجاوز عما كان منهم من شرك أو قتل أو زنا. رحيماً منعماً على عباده، فقد أنعم عليهم بالحسنات مكان ما تقدم من سيئاتهم.
ترتيب وتوجيه:
يكون العاصي في غمرات معصيته، فإذا ذكر الله، ووفقه الله أسف على حاله ورجع إلى ربه، وهذه أول الدرجات في توبته، فإذا استشعر قلبه اليقين، واطمأن قلبه بذكر الله صمم على الإعراض عن المعصية، والإقبال على الطاعة؛ فإذا كان صادقاً في هذا العزم، فلا بد أن يظهر أثر ذلك على عمله، فلهذا روعيت الحالة الأولى فذكرت التوبة، والثانية فذكر الإيمان، والثالثة فذكر عمل صالح.
تأييد وإقتداء:
روى الأئمة عن كعب بن مالك- رضي الله عنه- أحد الثلاثة الذين خلفوا (١).
وأنه لما جلس بين يدي النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بعدما تاب الله عليه.
قال: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي إلى الله، وإلى رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-.
فقال رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ-: «أمسك بعض مالك فهو خير لك».
قال: فقلت: فإنني أمسك سهمي الذي بخيبر (٢).
فهذا الصحابي الجليل رأى أن من توبته أن يعمل هذا العمل الصالح ليكون دليلاً على صدق توبته، كما اقتضته الآية فتأيد بفهمه ما قدمنا، وكان خير قدوة للتائبين.
وجوه التبديل:
لما كانت السيئة لا تنقلب حسنة كان معنى التبديل هو جعل الحسنة مكان السيئة.

(١) الذين خلفوا عن غزوة تبوك. وقد ورد ذكرهم في الآية ١١٨ من سورة التوبة: ﴿وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ... ﴾ الآية.
(٢) رواه البخاري في الوصايا باب ١٦، وأبو داود في الأيمان باب ٢٣.


الصفحة التالية
Icon