ومن الأول أمر النى- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- وعمه العباس- رضي الله عنه- أن يحبس أبا سفيان عند خطم (١) الجبل، حتى تمر عليه كتائب المسلمين؛ وذلك لإدخال الرعب على قلبه بما يرى من النظام والقوة.
فحبسه العباس، فجعلت الكتائب تمر به، فيسأل العباس عن كل كتيبة، فإذا أخبره قال: ما لي ولبني فلان؟
حتى مرّ رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في كتيبته الخضراء، وفيها المهاجرون والأنصار لا يرى منهم إلاّ الحدق (٢) من الحديد؛ فقال: من هؤلاء؛ فقال العباس: هذا رسول الله- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- في المهاجرين والأنصار. فقال أبو سفيان: ما لأحد بهؤلاء قِبَل ولا طاقة، لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيماً.
قال العباس: فقلت له: إنها النبوة، فقال: فنعم إذن.
قصد أبو سفيان عظمة الملك القاهر التي كان يعرفها من الأكاسرة وأمثالهم، فنفى ذلك العباس ورده إلى النبوة، التي هي أصل تلك القوة، وذلك الملك النبوي المستند إلى الوحي الإلهي، ولم يرد نفي الملك جملة.
ومنه (٣) ما كان من معاوية بالشام:
لما قدم عليه عمر وجده في أبهة من الجند والعدة، فاستنكر ذلك، وقال له: أكسروية يا معاوية؟! فاعتذر معاوية بأنهم في ثغر تجاه العدو، وأنهم في حاجة إلى مباهاة العدو بزينة الحرب والجهاد، فسكت عمر وأقره.
فذلك المظهر من مظاهر طبيعة الملك من حيث هو ملك، وإنما أنكره عمر لما خاف فيه من تعظم واستعلاء وإعجاب؛ فلما كان للحق والمصلحة أقره.
ومن أقوى الأدلة على أن تلك المظاهر إذا كانت للحق والمصلحة فهي محمودة مطلوبة، ما قصه الله علينا في هذه الآيات عن ملك سليمان نبي الله عليه الصلاة والسلام.
...
نعم في مسند أحمد أن النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- خير بين أن يكون نبياً ملكاً أو

(١) في اللسان (١٢/ ١٨٦ - مادة خطم): "الخُطْمَة: رَعْنُ الجبل". والرَّعْن: الأنف العظيم من الجبل تراه متقدماً، وقيل: الرعن أنف يتقدم الجبل. انظر اللسان (١٣/ ١٩٢ - مادة رعن).
(٢) الحَدَق: جمع الحَدَقَة، وهو السواد المستدير وسط العين (اللسان: ١٠/ ٣٩ - مادة حدق). وقوله هنا: «لا يرى منهم إلاّ الحدق من الحديد» أي أنهم كانوا متدرعين بالحديد من أعلاهم إلى أسفلهم بحيث لا يرى منهم إلاّ سواد أحداقهم.
(٣) أي من مظاهر الأبهة والجمال والقوة والفخامة.


الصفحة التالية
Icon