من أمر ربه، وتكون مجازاته على ذلك للخالق، الذي هو العالم بمن خرج عن طريقه وأعرض عن هداه، وبالذين قبلوا هداه فاهتدوا وساروا في سبيله.
والعدل الحقيقي التام في الجزاء، إنما يكون ممن يعلم السر والعلن، وليس ذلك إلاّ لله، فلا يكون الجزاء على الهدى والضلال من سواه؛ ولهذا ختمت هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾.
ثمرة:
ثمرة العلم بهذا:
أن الداعي يدعو ولا ينقطع عن الدعوة ولو لم يتبعه أحد، لأنه يعلم أن أمر الهدى والضلال إلى الله، وإنما عليه البلاغ. وأنه يصبر على ما يلقى من إعراض وعناد وكيد وأذى، دون أن يجازي بالمثل، أو يفتر في دعوته من أذاه؛ لعلمه بأن الذي يجازي إنما هو الله.
جعلنا الله والمسلمين من الدعاة إلى سبيله كما أمر، الصابرين المحتسبين أمام من آمن وشكر، ومن جحد وكفر؛ غير منتظرين إلاّ جزاءه، ولا متكلين إِلا عليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
...
٣ - دعوة أهل الكتاب
﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦)﴾ [المائدة: ١٥ و ١٦].
تمهيد:
أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- لجميع الأمم؛ فكانت رسالته عامة، وكانت دعوته عامة مثلها.
وجاءت آيات القرآن بالدعوة العامة في مقامات، وبالدعوة الخاصة لبعض من شملتهم الدعوة العامة في مقامات أخرى.
ولما أرسل الله محمداً- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- كان الخلق قسمين: أهل كتاب- وهم اليهود والنصارى- وغيرهم. وكان أشرف القسمين أهل الكتاب؛ بما عندهم من النصيب من الكتاب الذي أوتوه على نسيانهم لحظ منه، وتحريفهم لما حرفوا. وكانوا أولى القسمين باتباع محمد- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بما عرفوا قبله من الكتب والأنبياء. فلهذا وذاك كانت توجه إليهم الدعوة الخاصة بمثل قوله تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا﴾ إلى آخر الآيتين.


الصفحة التالية
Icon