وهذا العمل الفكري تظهر قوته في نواح: منها- وهو أهمها- التمييز بين الخير والشر، وأدق منه التمييز بين خير الخيرين، وشر الشرين؛ فإن الخير درجات وأنواع؛ والشر كذلك دركات وأنواع. والإنسان في هذا الخضم الذي تلاطمت أمواجه، وفي هذا الفضاء الذي تشابهت أفواجه، محتاج إلى معونة إلهية في تمييز الخير من الشر، وقد أمده الله بهذه المعونة من دينه الحق. ومحتاج إلى تأييد إلهي يعصمه من الشر ويقيه من الوقوع فيه عن جهالة أو عمد.
وقد هداه الله إلى أسبابه ووسائله بما شرع له من المنبهات عند طروق الغفلة، والمبصرات عند عروض الشبهة، والمعوذات المحصنات عند إلمام لمة الشيطان، وطواف طائفة.
ومن هذه المعوذات:
عقائد تدفع عن صاحبها الشكوك، وهي شر.
وحقائق تقي صاحبها الوهم، وهو شر.
وعبادات تربي مقيمها على الخير، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر.
وأعمال تثبت فاعلها على الحق.
وأقوال يمليها القلب- العامر بتقوى الله والخوف من مقامه- على الألسنة لتكون شهادة لها، أو عنواناً عليها، والألسنة تراجمة القلوب.
فكان مما شرع الله لنا في كتابه وعلى لسان نبيه التعوذ باللسان من الشر والباطل.
وأنزل الله عليه هاتين السورتين وفيهما الاستعاذة بالله من أنواع من الشرور هن أمهات لما عداهن.
وكان نبينا عليه السلام يكثر التعوذ باسم الله وكلماته من أنواع أخرى من الشرور مفصلة في صحاح السنة.
فضل المعوذتين:
أما السورتان فيكفي في فضلهما ما أخرجه مسلم في صحيحه عن عقبة بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ألم تر آيات أنزلت الليلة لم ير خير منهن قط؛ قل أعوذ برب الفلق، وقل أعوذ برب الناس» (١).
وفي رواية أخرى في مسلم (٢) عنه تسميتهما بالمعوذتين، وفي رواية أبي أسامة في مسلم أيضاً وصف عقبة ابن عامر، بأنه كان من رفعاء أصحاب محمد - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (٣)؛ فتسمية هاتين السورتن بالمعوذتين تسمية نبوية مأثورة، كأسماء جميع سور القرآن.

(١) أخرجه مسلم في صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ٢٦٤.
(٢) في صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ٢٦٥.
(٣) صحيح مسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ٢٦٥.


الصفحة التالية
Icon