الخناس:
﴿الْخَنَّاسِ﴾ وصف مبالغة في الخانس من الخنوس، وهو التأخر بعد التقدم، ومن ملابسات هذا المعنى ومكملاته في المحسوس: أنه يذهب ويجيء ويظهر ويختفي إغراقاً في الكيد، وتقصياً في التطور، حتى يبلغ مراده. فالله تعالى يرشدنا بوصفه بهذه الصفة إلى أن له في عمله كراً وفراً، وهجوماً وانتهازاً. واستطراداً على التصوير الذي صوره إبليس في ما حكى الله عنه: ﴿ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ﴾ [الأعراف: ١٧]. يرشدنا بذلك لنعد لكل حالة من حالاته عدتها، ولنضيق عليه المسالك التي يسلكها.
كما أن وصفه بهذه الصفة يشعر بأنه ضعيف الكيد، لأن الخنوس ليس من صفات الشجاع المقدام، وإنما هو كالذباب: تذبه بذكر الله من ناحية فيأتيك من ناحية، ثم دواليك حتى تمل أو يمل.
وأما التهويل في وصفه بما يأتي بعد، فهو مبالغة في التحذير منه؛ لأن وصفه بالضعف مظنة لاحتقاره والتساهل في أمره.
...
الوسوسة ومحلها:
﴿الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ﴾.
قال: "يُوَسْوِسُ" بالمضارع إشعاراً بعد إشعار بتجدد الوسوسة منه وعدم انقطاعها.
وقال: "فِي صُدُورِ النَّاسِ" والصدر ملتقى حنايا الأضلع ومستوح القوى التي كان الإنسان إنساناً بها، ومجمع المُضَغ (١) التي تحمل تلك القوى، والقلب واحد منها، فالقلب غير الصدر، وإنما هو فيه، ولذلك قال: ﴿وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ﴾ [الحج: ٤٦].
ومواقع استعمال القرآن لكلمة الصدر مفرداً وجمعاً- فالحكم عليها بالشرح، والحرج، والضيق، والشفاء، والإخفاء، والإكناد- ترشدنا إلى أنه ليس المراد منه الصورة المادية، ولا أجزاءها المادية، إنما المراد القوى النفسية المستودعة فيه، وأن الوسواس الخناس، يوجه كيده ووسوسته دائما إلى هذه القلعة التي هي الصدر؛ لأنها مجمع القوى.
وقال: "فِي صُدُورِ النَّاسِ"، ولم يقل في قلوب الناس؛ لأن القلب مجلى العقل ومقر الإيمان، وقد يكون محصنا بالإيمان فلا يستطيع الوسواس أن يظهره ولا يستطيع له نقباً.
﴿مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ﴾.
﴿الْجِنَّةِ﴾ جماعة الجن وهم خلاف الإنس، والمراد هنا أشرار ذلك الجنس، لأن منهم المسلمين ومنهم القاسطين (٢).
(٢) كما قال تعالى في الآية ١٤ من سورة الجن: ﴿وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ﴾.