وبهذا نستعين على فهم السر والحكمة في اختيار الله للعرب للنهوض بهذه الرسالة الإسلامية العالمية، واصطفائه إياهم لإنقاذ العالم مما كان فيه من شر وباطل.
وهذا السر هو أن ما كانوا عليه من شرف النفس وعزتها والاعتداد بها هو الذي هيأهم لذلك، ولو كانوا أذلاء لما تهيأوا لذلك العمل العظيم.
الفروق بين العرب وإسرائيل:
وانظروا واعتبروا ذلك، بحال أمة هي أقرب أمة إلى العرب، وهي أمة إسرائيل: فإنها لم تُهيَّأ لانقاذ غيرها، وانما هيئت لإنقاذ نفسها فقط؛ لأن مقوماتها النفسية لم تصل بها إلى الدرجة العليا؛ ولذلك عانى موسى ما عانى مما قصه القرآن علينا؛ لنعتبر به في الحكم على الأمم.
ولا حاجة إلى التطويل في الحديث عن بني إسرائيل، فإن القرآن قد فصل لنا شؤونهم تفصيلاً، وإنما أنبهكم على هذا الفارق الجوهري بين الأمتين.
وقد تقولون: إن بني إسرائيل اختارهم الله وفضلهم على العالمين.
والجواب الذي يشهد له الواقع أنه اختارهم لينقذوا أنفسهم من استعباد فرعون، وليكونوا مظهراً للنبوة والدين في أول أطوارهما، وأضيق أدوارهما؛ وهذا هو الواقع. فإن الأمة العربية استطاعت أن تنهض بالعالم كله، وأن تظهر دين الله على الدين كله. وأما بنو إسرائيل فإنهم ما استطاعوا أن ينهضوا بأنفسهم إلاّ بعد موسى بزمن، مع اتصال حبل النبوة ومعاداة الوحي الإلهي ومراوحته لهم.
فالأمتان العربية والإسرائيلية متمايزتان بالأثر، ومتمايزتان بحديث القرآن عنهما.
وإذا تلمسنا الحكمة المقصودة من اختيار الله لبني إسرائيل مع أنهم غير مستعدين للقيام بنهضة عالمية عامة، وجدنا تلك الحكمة في القرآن مجلوة في أبلغ بيان، في قوله تعالى:
﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص: ٥، ٦]. فالسر المتجلي من هذه الآية: هو أن الله أراد بما صنع لبني إسرائيل وبما قال لهم أن يعلم هذا الإنسان من سنن الله في كونه ما لم يكن يعلم، وهو إخراج الضد من الضد، وإخراج الحي من الميت، وإنقاذ الأمة الضعيفة التي لا تملك شيئاً من وسائل القوة الروحية، ولا من وسائل القوة المادية- من استعباد الأقوياء المتألهين.
فهو مثل عملي ضربه الله لخلاص أضعف الضعفاء من مخلب أقوى الأقوياء.
وجعل المستضعفين أئمة وارثين، وسادة غالبين. والتمكين لهم في الأرض، وإرادة الأقوياء المستعلين في الأرض عاقبة باطلهم، لكيلا ييأس المستضعفون في الأرض من روح الله.
وقد قال موسى لبني إسرائيل تمكيناً لهذا المعنى في نفوسهم: