والذي أفهمه ولا أعدل عنه، هو أن المصانع جمع مصنع من الصنع، كالمعامل جمع معمل من العمل، وأنها مصانع حقيقية للأدوات التي تستلزمها الحضارة ويقتضيها العمران.
وهل كثير على أمة أن توصف بما وصفت فيه في الآية- أن تكون لها مصانع بمعناها العرفي عندنا؛ بلى؛ وإن المصانع لأول لازم من لوازم العمران، وأول نتيجة من نتائجه.
ولا أغرب من تفسير هؤلاء المفسرين للمصانع، إلاّ تفسير بعضهم للسائحين والسائحات: بالصائمين والصائمات!
والحق: أن السائحين هم الرحالون والرواد للاطلاع والاكتشاف والاعتبار.
والقرآن الذي يحث على السير في الأرض والنظر في آثار الأمم الخالية.. حقيق بأن يحشر السائحين في زمرة العابدين والحامدين والراكعين والساجدين. فربما كانت فائدة السياحة أتم وأعم من فائدة بعض الركوع والسجود.
ولا يقولن قائل: إذا كانت المصانع ما فهمتم.. فلماذا يقبحها لهم وينكرها عليهم؟
والجواب:
فإنه لم ينكرها عليهم لذاتها، وإنما أنكر عليهم غاياتها وثمراتها، فإن المصانع التي تشيد على القسوة لا تحمد في مبدأ ولا غاية. وأي عاقل يرتاب في أن غالبية المصانع اليوم هي أدوات عذاب لا رحمة، ووسائل تدمير لا تعمير؟؟
فهل تحمدها على عمومها؛ وإن كانت دلائل حضارة ومدنية؟؟!!
ومن محامد المصانع أن تشاد لنفع البشر ولرحمتهم، ومن لوازم ذلك أن نراعي فيها حقوق العامل على أساس أنه إنسان لا آلة!!
...
﴿وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ﴾
لا بد لكل أمة تسود وتقوى من بطش.
ولكن البطش فيه ما هو حق، بأن يكون انتصافاً وقصاصاً، وإقامة لقسطاس العدل بين الناس.
وفيه ما هو بطش الجبارين، والجبار هو الذي يجبرك على أن تعمل بإرادته لا بإرادتك، فبطشه إنما يكون انتقاما لكبريائه وجبروته وإرضاء لظلمه وعتوه، وتنفيذا لإرادته الجائرة التي لا تبنى على شورى، وإنما تبنى على التشهي وهوى النفس؛ لذلك لم ينقم منهم البطش لأنه بطش... وإنما نقم بطش الجبابرة الذي كله ظلم.