فكرية.. منها الهندسة، والهندسة تتوقف ثمراتها على علم كثيرة، وعلوم العمران كعروق البدن يمد بعضها بعضاً، فهي مترابطة متماسكة متلاحمة، فما يكون السبئيون بلغوا في الهندسة مبلغاً أقاموا به سد مأرب؛ حتى يبلغوا في غيره من علوم العمران ذلك المبلغ.
ولكن لما كفروا بأنعم الله واستعملوها في ما يسخطه، سلط الله عليهم من الأسباب ما خرب عمرانهم، وأباد حضارتهم، وذلك قوله تعالى: ﴿فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾. ويقول في وصف عمرانهم: ﴿وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً﴾ يعني أن عمرانهم لم يكن محدوداً وإنما كان متصلاً بعضه ببعضه.
فالقرى والمدن يظهر بعضها من بعضها لقربها وتلاحمها، فلا يكاد المسافر يبرح مدينة حتى تبدو له أعلام الأخرى، ولا يكون هذا إلاّ إذا كان العمران متصلاً، وهذا هو معنى الظهور في الآية فهو ظهور خاص.
وتقدير السير هو أن يكون منظماً ومن لوازمه أن تكون الأوقات مضبوطة بالساعات، والطرق محدودة بالعلامات التي تضبط المسافة.
وقوله تعالى: ﴿سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ﴾ يرشدنا إلى امتداد العمران مسافة الليالي والأيام، وأن الأمن كان ماداً رواقه على هذا العمران ولا يتم العمران إلاّ بالأمن.
ولكن فات القوم أن يحصنوا هذه المدنية الزاخرة بسياج الإيمان، والشكر، والفضيلة، والعدل- وكل مدنية لم تحصن بهؤلاء فمصيرها إلى الخراب.
والناس من قديم مفتونون بعظمة المظاهر، يحسبون أنها خالدة بعظمتها باقية بذاتها، فالقرآن يذكر لنا كثيراً من مصائر الأمم، حتى لا نغتر بمظاهرها، وحتى نعلم أن سنة الله لا تتخلف في الآخرين، كما لم تتخلف في الأولين.
وأما قوله تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا﴾ فإن المفسرين السطحيين يحملونه على ظاهره وأي عاقل يطلب بعد الأسفار؟!
والحقيقة أنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم، وإنما هو نتيجة أعمالهم، ومن عمل عملاً يفضي إلى نتيجة لازمة؛ فإن العربية تعبر عن تلك النتيجة بأنها قوله، وهذا نحو من أنحاء العربية الطريفة.
ولا زال الناس- على عاميتهم- يقولون فيمن عمل عملاً يستحق عليه الضرب أو القتل:
إنه يقول اقتلني أو اضربني وهو لم يقل ذلك، وإنما أعماله هي التي تدعو إلى ذلك.
فالمعنى: أن أعمالهم هي التي طلبت جزاءها اللازم لها المرتبط بها ارتباط اللازم بالملزوم والدال بالمدلول، فكأن ألسنتهم قالت ذلك، ويؤيد هذا في القرآن كثير، ومنه قوله تعالى: ﴿سَيَجْزِيهِمْ﴾ [الأنعام: ١٣٨، ١٣٩]. ؛ لأن الجزاء أثر للفعل فهو مرتبط به.
ولا يقولن قائل: إن القول يقع مدلوله قي القلب حالاً، ولا كذلك العمل، فقد يتأخر