ركب فيها من شهوة، وبما فطرت عليه من غفلة، وبما عرضت له من شؤون الحياة، وبما سلط عليها من قرناء السوء من شياطين الإنس والجن، لا تزال- إلاّ من عصم الله- في مقارفة ذنب، ومواقعة معصية صغيرة أو كبيرة، من حيث تدري ومن حيث لا تدري. وكل ذلك فساد يطرأ عليها، فيجب إصلاحها بإزالة نقصه، وإبعاد ضرره عنها. وهذا الإصلاح لا يكون إلاّ بالتوبة والرجوع إلى الله تعالى.
ولما كان طروء الفساد متكرراً فالإصلاح بما ذكر يكون دائماً متكرراً.
والمداومة على المبادرة إلى إصلاح النفس من فسادها، والقيام في ذلك، والجد فيه، والتصميم عليه، هو من جهاد النفس الذي هو أعظم الجهاد.
ومن معنى هذه الآية قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾ [البقرة: ٢٢٢]. وهم الذين كلما أذنبوا تابوا، والتوبة طهارة للنفس من دَرَنِ المعاصي.
(والغفور) في قوله تعالى: ﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا﴾. هو الكثير المغفرة، لأنه على وزن فعول، وهو من أمثلة المبالغة الدالة على الكثرة. والمغفرة سترة للذنب وعدم مؤاخذته به.
ولما ذكر من وصف الصالحين كثرة رجوعهم إليه، ذكر من أسمائه الحسنى ما يدل على كثرة مغفرته ليقع التناسب في الكثرة من الجانبين، ومغفرته أكبر. وليعلم أن كثرة الرجوع إليه يقابله كثرة المغفرة منه، فلا يفتأ العبد راجعاً راجياً للمغفرة، ولا تقعده كثرة ما يذنب عن تجديد الرجوع، ولا يضعف رجاءه في نيل مغفرة الغفوركثرة الرجوع.
وقد أكد الكلام بـ"إن" لتقوية الرجاء في المغفرة. وجيءَ بلفظة كان، لتفيد أن ذلك هو شأنه مع خلقه من سابق، وهذا مما يقوي الرجاء فيه في اللاحق؛ فقد كان عباده يذنبون ويتوبون إليه، ويغفر لهم، ولا يزالون كذلك، ولا يزال تبارك وتعالى لهم غفوراً.
وإنما احتيج إلى هذا التأكيد في تقوية رجاء المذنب في المغفرة، ليبادر الرجوع على كل حال، لأن العبد مأخوذ بأمرين يضعفان رجاءه في المغفرة:
أحدهما كثرة ذنوبه التي يشاهدها فتحجبها كثرتها عن رؤية مغفرة الله تعالى، التي هي أكبر وأكثر.
والآخر رؤيته لطبعه البشري؛ وطبع بني آدم من المنع عند كثرة السؤال، كما قال شاعرهم - أي البشر- لأن الشاعر العربي عبر عن طبع بشري:
سأَلْنَا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنَا فَعُدْتُمْ | وَمَنْ أَكْثَرَ التِّسْآلَ يَوْماً سَيُحْرَمِ (١) |