والانفاق في المطلوبات ليس بتبذير ولو كان كثيرا إلا إِذا أنفق في مطلوب دون تقدير فأضر بمطلوب آخر: كمن أعطى قريباً، وأضاع قريباً آخر، أو أنفق في وجوه البر وترك أهله يتضورون بالجوع. وقد نبه النبي- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- على هذا بقوله: «وابدأ بمن تعول» (١).
والإنفاق في المباحات إذا لم يضيع مطلوباً، ولم يؤد إلى ضياع رأس المال، بحيث كان ينفق في المباح من فائدته ليس بتبذير. فإذا توسع في المباحات وقعد عن المطلوبات، أو أداه إلى إفناء ماله فهو تبذير مذموم.
وأفادت النكرة وهي قوله: ﴿تبذيراً﴾ بوقوعه بعد النهي العموم. فهو نهي عن كل نوع من أنواع التبذير: القليل منه والكثير، حتى لا يستخف بالقليل. لأن من تساهل في القليل وصلت به العادة إلى الكثير.
...
إخوان الشياطن:
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾.
إن الشيطان يعمل، وأعماله كلها في الضلال والإضلال، فقد ضيع أعماله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وهو جاد في ذلك ضارٍ (٢) عليه لرسوخه في نفسه. والمبذر يضيع أمواله في الباطل، وقد كان يمكنه أن يجعلها في الخير. وقد أخذت عادة التبذير بخناقه واستولت عليه؛ فهو أخو الشيطان لمشاركته له في وصفه، كمشاركة الأخ لأخيه. وهو أخوه بامتثاله لأمره، وصحبته له في الحال وفي المآل (٣)، وفي سوء العاقبة في العاجل والآجل.
المال، كما هو أداة لكل خير، كذلك هو أداة لكل شر: فالمبذر المفرق لماله في وجوه الباطل بالغ- لا محالة- بماله إلى شر كثير وفساد كبير؛ ولذلك وصف بأنه أخ الشيطان الذي هو أصل الشر والفساد.
ووصف الله تعالى الشيطان بقوله: ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾؛ لأنه أنعم عليه بنعمة، فبدلًا من أن يستعملها في طاعته في الخير قصرها على المعصية والشر.
(٢) من الضراوة، وهي العادة؛ يقال: ضرِيَ الشيءُ بالشيءِ إذا اعتاده فلا يكاد يصبر عنه. انظر لسان العرب (مادة ضري- ١٤/ ٤٨٢).
(٣) تقول العرب لكل ملازم سنة قوم وتابع أثرهم: هو أخوهم. انظر تفسير الطبري (٨/ ٦٩).