وبعد الذي بذلته من جهد فيما جمعت، من هذه الشواهد التي أعيت على الدارس في دلالتها المتغلغلة تحت مطاويها حاولت أن أستخرجها بالأناة والصبر واستقصاء الجهد من غير استكراه يذهب به الخاطر إلى إفحاش في الصنعة واعتداء على طبيعة اللغة، أو توهم يُظاهر عليه الخيال فيما مَذِلَ (١) به، أو تتايع (٢) فيه، فقد أخرج أبو نعيم من حديث ابن عباس: "القرآن ذلول ذو وجوه فاحملوه على أحسن وجوهه" (٣).
نعم بعد هذا الجهد أقول ما قاله الشمّاخ في قوسه العذراء:
فلما شراها فاضت العين عَبرة | وفي الصدر حزّاز من الوجد حامزُ |
وكَشْكشْة رَبيعة (٥)، وكَسْكَسْة هَوازِن (٦)، وتضجّع قَيْس، وعجرفية ضَبَّة، وتَلْتلة بَهراء (٧)، ولولا هذه العربية التي حفظها القرآن علينا لما تماسكت أجزاء هذه الأمة وتلاحمت أسباب كثيرة بالمسلمين إلى يوم الناس هذا.
فرسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفصح قريش ولا فخر، إذ قال: "أوتيت مفاتيح
_________
(١) مَذِلَ به: ضجر وقلق.
(٢) تتابع: تهافت.
(٣) السنن: للدرقطني: ٤/ ١٤٤.
(٤) أنشد ذو الرمة عبد الملك:
أعن ترسمت من خرقاء منزلة ماء | الصبابة من عينيك مسجون |
(٥) تزيد الشين مع كاف المؤنث: رأيتكش وأعطيتكش تفعل هذا في الوقف، فإذا وصلت أسقطت الشين.
(٦) تزيد السين مع كاف المؤنث: أعطيتكس ورأيتكس في الوقف دون الوصل.
(٧) يقولون: تعلمون وتفهمون وتصنعون بكسر التاء.