وإذا رأيت البصير بكلام العرب يستجيد أبياتا أو يستحسن مقالة ويصفها بالحلاوة والرشاقة والحسن والأناقة فليس ذلك إلى رقة ألفاظها بل إلى ما حوته من فضل معانيها وبراعة صياغتها. ففي طباع أصحابها من لطف الحس وصفائه، ونصاعة جوهر الفكر ونقائه أنهم لم يُؤتَوا هذه اللغة الشريفة إلا ونفوسهم قابلةٌ لها محسة لقوة الصنعة فيها ففي هذه اللغة من الغموض والدقة ما جعلهم مشغوفين بها ومُعظمين لها وفيها من الحكمة ما تشهد به العقول فهي مَعْلم من معالم سَداد عقولهم وفضيلة نفوسهم.
وإذا كان اللسان ترجمان الجنان، فإصابة اللسان في التعبير أو الرداءة في التحبير، ناشئة عن اضطراب في الفكر وفساد في الذوق وقد قيل: الإبداع في الفكر مرتبط بالإحساس بالجمال وكمال البيان. وقدرة المتلقي العقلية تُظهر المستوى الصادر عن بنيته التحتية لهذه اللغة، فمستمعٌ للقرآن يبكي، ينسلخ عن عالمه ويغيب عن حسِّه، وآخر يتركز تفكيره في الواقع اللغوي لا يكاد يخرج عنه، وثالث لا يفقه المراد من إعجازه، ورابع... وخامس... وكان أول مرض ألمَّ بلغتنا هو الوقوف عند ظاهر قوانين النحو ومدلول الألفاظ المفردة والانصراف عن معاني الأساليب ومغازي التراكيب إلا على استحياء مما أضعف لغتنا وهي في ريعان الشباب.
وكانت دولة الألفاظ قد استبدت بالمعاني في عصر الجرجاني فحاول تأييد المعنى وتعزيز جانبه ورفض أن تكون الكلمة أبسط عنصر لغوي ذي دلالة قال: والألفاظ لا تفيد حتى تُؤلف ضرباً من التركيب والترتيب، فلو عمدت إلى جملة وأبطلت نضدها ونظامها الذي عليه بُنيت وفيه أفرغ معناها، والذي بخصوصيته أفاد، وبنسقه المخصوص أبان المراد، لو فعلت ذلك لأخرجت المعنى من كمال البيان إلى محالِّ الهذيان.


الصفحة التالية
Icon