اللمحة السريعة تكشف عن حقيقة، تطالعك في جلال وجمال، في صور وألوان، والحق كذلك، إن لم تجد النجم فلا تلتمس الشعاع.. وإن لم يسلك اللفظ في تعبير فلا تسلْ عن معناه.
ولانقطاع جيلنا عن لغته نَزُر منها حظُّه، وتخلّفت عنها مَداركه، ولقصور فهمه عن معانيها العالية ما عاد يستوحي من اللفظ إلا الدارج والشائع، فجيلنا من أقل الأجيال المضرية حظاً بلغته، لم يُصِبْ من وجوه تصريف معانيها إلا كما تأخذ الإسفنجة من الماء تنتفخ بقليل منه ثم لا تلبث أن تمجّه.
إن وحي الكلمة يصل ماضي اللغة بحاضرها بمستقبلها عَبْر مسيرة الزمن، وستظل هذه اللغة الشريفة بل المعجزة الباهرة تعطي مَن نَشَد من مَجَاني أُكُلها، ويانع قِطافها، كنوزاً أُنفاً مع قدرة على المجاراة والاستيعاب لكل المستجدات، تطوي الطارف على التليد، فجديدها غير مُنبت عن وشائج منابته، وقديمها غيرُ مَكْفوفٍ عن جواذب حواضره.
الألفاظ مُغلقةٌ على معانيها، وأغراضها كامنة فيها، إنما يفتحها النظم ويستخرجها، فانظر فيه وفي صياغته وسياقه ومدلوله، وترسَّم آفاقه لفهم معانيها وتحديد أبعادها. هذا فعل (جعل) يتعدى لمفعولين في سياق الآية الكريمة (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) (١) ويتعدى لمفعول واحد في سياق الآية الكريمة (وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ) (٢) لماذا؟ إنه السياق إذاً وله مدلولاته.
وهذا فعل (سمع) يتعدى بنفسه (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا) (٣) وباللام: (سمع اللَّه لمن حمده) (٤) فهل هما متماثلان؟ كيف! والفرق بينهما كبير.
واللغة بعد ذلك انتماء، لو فرّط فيها لانتهى إلى ضياع، ضياعه وضياع ما ينتمي إليه، فإن أكثر من ضل من أهل الشريعة عن القصد وحاد عن الطريق فإنما استهواه واستخف حِلْمَه ضعفُه في هذه اللغة الشريفة، وبُعدُه عنها وعن حُسن التصرف فيها أو المزاولة لها، ولذلك قال رسول اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لرجل لحن: "أرشدوا أخاكم فإنه قد ضل" (٥) فسمى اللحن ضلالاً، وقال صلوات اللَّه عليه: "رحم الله امرأً أصلح من لسانه" (٦) لما في ذلك من عاقبة الفساد وزَيغْ الاعتقاد، وهل يكب الناسَ على مناخرهم في النار إلا حصائدُ ألسنتهم!؟ وهل اللسان إلا ترجمان الجَنان؟ أوليس يوقع بالكفر إلا كلمة يهوي بها سبعين خريفاً في النار (٧).
فإذا كان للغة هذا الخطر العظيم فحريٌّ بنا أن نجعلها موضع عنايتنا واهتمامنا لأنها من أخطر القضايا الإنسانية على الإطلاق، إذ هي الكفيلة بإيضاح حقائق التنزيل، والإفصاحِ عن خفايا التأويل، وإظهار دلائل الإعجاز، وشرح معالم الإيجاز، وهي مما أوحى بها العليم الخبير إلى عبده آدم ليكون أنبهَ لها وأذهبَ في شرف الحال بها.
وتتبعتُ السر الذي أخْصبَ تاريخنا القَفْر المجدب في الجاهلية فأنبتَ للدنيا في ظل الشريعة أزاهيرَ لا تغيب عنها الشمس.. فإذا هي اللغة في هذا
_________
(١) البقرة: ١٢٤.
(٢) الأنعام: ١.
(٣) المجادلة: ١.
(٤) البخاري أذان ٢٥، ٧٤، م صلاة ٢٥
(٥) المستدرك على الصحيحين ٢/ ٤٧٧.
(٦) مر عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقوم يرمون نبلاً فعاب عليهم فقالوا يا أمير المؤمنين: إنا قوم متعلمين فقال: لحنكم علينا أشد من سوء رميكم سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: رحم الله امرءاً أصلح من لسانه. مسند الشهاب ١/ ٣٣١، وقد ضعف هذا الحديث ابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال ٥/ ٢٥٠ وغيره.
(٧) في الحديث: (إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يلقي لها بالاً يهوي بها سبعين خريفاً في النار. الحديث أخرجه البخاري في الرقائق ٢٣، ومالك في الموطأ في الكلام ٦، وأحمد في ٢/ ٣٣٤.