شيء، والاستدلال عليه شيء آخر، ولا يلزم الغلط في أحدهما الغلط في الآخر.
وحين نقول: يحتمل اللفظ هذا المعنى، فهل نريد صلاحيته له من حيث الوضع اللغوي أم من حيث مراد المتكلم؛ حسبما يقتضيه السياق؟ فإنه لا يلزم من صلاحية الوضع أن يكون مراداً من جهة المتكلم وبعض المفسرين كانت طريقتهم في معالجة حروف المعاني أنهم تناولوا شرحها ضمن مفردات الجملة لبيان معناها وإيضاح مدلولها دون ربطها بالسياق والهيكل العام ونظراته الشاملة، فحبسوا
شروحهم وقُرَّاءهم في أسر المفردات، فشق على القارئ أن يحيط بمدلولها من خلال الكُليات، والاهتداء بسهولة إلى معالم الفكرة العامة لأنها اختفت وراء دلالات الألفاظ المفردة وغابت خلف عديد من التخريجات والتأويلات لمعان جزئية دون عرضها أو ربطها في هيكل متكامل تتناسق فيه الجزيئات بالكليات، ويأخذ بعضها برقاب بعض.
وحين قال النحاة: (إلى) بمعنى اللام، والباء بمعنى (في) وعن بمعنى على... ردد ذلك المفسرون أو أكثرهم ولم يسألوا عن سبب تناوب هذه الحروف ولم يتعرضوا للعلة التي من أجلها جرى التعاور. فليس التناوب في الحروف إلا أسلوباً من الهروب في مواجهة المشكلة، أو قنطرة للخروج من مأزق. وحين فشا على ألسنة المفسرين واتسع، صار لشياعِهِ كأنه أصل يقاس عليه، فكيف نفزع إليه وهو لضعفه لا يملك أن يكون علة نفسه؟ فخذ منه حِذرك، ولا تغتر من إخلاد من أخلد إليه وقد كشفت لك عن مساوئه. لا بد إذن أن تكون العلة الغائية ضالة البياني أو المفسر، لأنها تسعى لشرح العلاقات بين المضمّن والمضمّن فيه، حين يُحمل المعنى على التضمين، كما تسعى للكشف عما تحمله هذه الحروف من وظائفَ ومعانٍ.
ويرى علماء اللغة المحدثون البحث عن هذه العلة ضرورة لتعميق الفهم، ويَرون حرمان أي بحث لغوي منها محاباة للتمرير على حساب العمق في الفهم والإحاطة.