الآية تصرفنا إذاً إلى لذة الشرب على وجه الخصوص لأن التذوق أكثر الحواس استمتاعا، ولذّة الشعور به ترقى عن كل ما سواه.
نعم والتذوق مسبب عن الشرب وهو من لوازمه، وهو الغاية المطلوبة منه وليس عارضا من عوارضه، والذائقة واللذة أخص من الشرب إذ يمتنع حصولها بدونه، وهي أثبت وأرسخ منه، فأثرها يبقى في القلب ويطول، والشرب عارض زائل. وهذا أمر غفل عنه كثير من المفسرين حين شغلتهم الوسيلة عن الغاية، فالتضمين جمع بينهما بقوته وسلطانه، فلم يدَعْنا نقف على طرف منهما ولا نأنس بالآخر إلا على استكراه. وأما قول السيوطي: الباء بمعنى (مِنْ) فليس بشيء، لقد وقف على الشرب لا يعدوه ولم يُنعم النظر في صورته والمشهد الذي جاء فيه، فخفي عنه غرضه لأنه يحصر معانيه في منظور ضيق، وتنتهي اللغة عنده إلى حطب يابس. فما معنى أن نجعل (الباء) بمعنى (مِنْ) والحرف لا يقوم معناه بنفسه وإنما إفادته متوقفة على تركيبه. فمن أصر فليأخذ في غير هذه الصناعة لأنه يُخرج العبارة من التي أريدت له ويُذهب استطابتها ويُفسد الإمتاع بها والاستملاح لها، ومن اعتاص عليه الغرض من مجيء هذه الباء ووجد المسلك إلى معرفتها عَسوفا فالتضمين يهديه السبيل، لا يُفثَج بحرُه ولا يُغَرَّض. ومعلوم أنه سبحانه، لا يُغيَّر حرفا بحرف أو يُبدَّل إلا ووجه الحكمة قائم فيه، وإن خفيت عنّا أغراضه ومعانيه.
نعم جاءت الباء مَنْبَهة على الخبيء ليُطلب، والدفين ليُستخرج.
ولولاها لخَفيتْ عنا هذه اللطائف، فاحتسِ من شرابها بَرودا عذباً، وتحرَّ الكَيْس في الإجابة عن تناوبها أو دعوى زيادتها.
لقد جلَّى التضمين وجه الحكمة في اختيار الفعل الذي يستضيءُ به المعنى ويتنبَّه على أسبابه.
أجل في الشرب من الدلالة ما لا خفاء به، إنه للاستمتاع بهذه العين


الصفحة التالية
Icon