فأما قول ابن الحصار: إنها نزلت أولاً بمكة قبل الهجرة مع السورة لأنها مكية، فيكفي هذا القول ضعفا عدم وجود الدليل عليه، ونزول سورة النحل بمكة قبل الهجرة لا يلزم منه أن تكون السورة كلها كذلك، ومن المعلوم أن من السور المكية آياتٍ مدنية والعكس صحيح.
وأما قوله: إنها نزلت ثالثًا يوم الفتح فليس له دليل إلا ما جاء في حديث أُبي: فلما كان يوم فتح مكة فأنزل اللَّه تعالى: (وَإِنْ عَاقَبْتُمْ... ) الآية.
فهذا وهم بلا ريب إذ كيف يتأخر النزول عن السبب خمس سنين، ومما يدل على تطرق الوهم للحديث أن مداره على الربيع بن أنس وهو صدوق له أوهام.
فإذا انتفى القول بنزولها قبل الهجرة ويوم الفتح لم يبق إلا نزولها عند غزوة أُحد واللَّه أعلم.
خامساً: قال اللَّه تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥).
أ - أخرج البخاري وأحمد ومسلم والترمذي والنَّسَائِي عن عبد اللَّه بن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قال: كنت مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في حرث بالمدينة وهو يتوكأ على عسيب، فمر بنفر من اليهود. فقال بعضهم: سلوه عن الروح، وقال بعضهم: لا تسألوه، لا يسمعكم ما تكرهون، فقاموا إليه فقالوا: يا أبا القاسم، حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينظر، فعرفت أنه يُوحى إليه، فتأخرت عنه حتى صعد الوحي ثم قال: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي).
ب - أخرج أحمد والترمذي والنَّسَائِي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... ) قالوا: أُوتينا علماً كثيرًا أُوتينا التوراة ومن أُوتي التوراة فقد أُوتي خيرًا كثيرًا قال: فأنزل اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (١٠٩).


الصفحة التالية
Icon