الْأَلْبَابِ (٢٩)، وهذا التدبر لا يتأتى إلا بمعرفة تفسير الآية، لأن التدبر بدون فهم المعنى ممتنع ومعرفة تفسيرها لا تمكن بغير معرفة سبب نزولها، قال الواحدي: (إنه يمتنع معرفة تفسير الآية وقصدِ سبيلها دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها) اهـ.
فإذا كان التدبر لكتاب اللَّه، وهو مفتاح العلوم والمعارف موقوفاً على التفسير، والتفسير موقوفاً على سبب النزول، فإننا ندرك بذلك المنزلة العالية، والمكانة السامية التي تحظى بها أسباب النزول.
ولا شك أن لأسباب النزول أثراً في التفسير وبيان المراد، ومن ذلك:
١ - أن أسباب النزول في غالبها حكايات وقصص، منها ما هو مختصر ومنها ما هو طويل مبسوط، وهذه القصص تصور العصر الإسلامي الأول، وتصور واقع الذين كانت تتنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم، وتوجيههم، وتربيتهم، وتصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم، من الأمور التي تقدم نفعاً جليلاً في فهم المعنى، إذ هي تبصرة بالمناخ الذي نزل فيه النص، وكثيرًا ما يقع المفسِّر في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع المجتمع الذي يعيش فيه، لا واقع البيئة والمجتمع الذي نزل النص لمعالجته بالتعليم والتوجيه والتربية.
وإذا أردت أن تتحقق من هذا فانظر في قصة الإفك مثلاً فإنها تصوِّر لك البيئة العامة، والخاصة، وتكشف لك الأنماط السائدة ذلك الوقت.
٢ - أن أسباب النزول تكشف لنا عن الظرفين الزماني والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات، فهو يقدم للمفسر نفعًا جليلاً، ويهديه إلى مفهوم أدق وأقرب إلى المراد، وذلك أن من الآيات ما يلائم ظرفًا من الظروف في حين أنه قد لا يلائم ظرفًا آخر، إذ ما يلائم في مواسم الأعياد قد لا يلائم في أوقات التحريض على الجهاد، وما يلائم حال المناسك قد لا يلائم في مواضع البيع والشراء.
٣ - أن أسباب النزول تبين الحال النفسية والفكرية والاجتماعية التي كان