ومع هذا يبقى هذا السؤال الذي يتطلب منا جوابا، وهو: هل صار التفسير علمًا بالمعنى الدقيق لكلمة علم؟
عرض الدكتور الذهبي - رحمه اللَّه - لهذه المسألة، فقال: يرى بعض العلماء: أن التفسير ليس من العلوم التي يتكلف لها حد؛ لأنه ليس قواعد أو ملكات ناشئة من مزاولة القواعد كغيره من العلوم التي أمكن لها أن تشبه العلوم العقلية، ويكتفي في إيضاح التفسير بأنه بيان كلام اللَّه، أو أنه المبين لألفاظ القرآن ومفهوماتها.
ويرى بعض آخر منهم: أن التفسير من قبيل المسائل الجزئية أو القواعد الكلية، أو الملكات الناشئة من مزاولة القواعد؛ فيتكلف له التعريف، فيذكر في ذلك علومًا أخرى يحتاج إليها في فهم القرآن، كاللغة: والصرف، والنحو، والقراءات... وغير ذلك.
والحق الذي يصدق الواقع، وتشهد به التفاسير الكثيرة، أن فن تفسير القرآن الكريم من قبيل العلوم ذات الموضوع والمسائل المستنبطة بوحدة موضوعها وغايتها وغير ذلك، فإن له كتبه المدونة المختصة به كما لسائر العلوم، وأيضًا: فإن فيه كثيرًا من القواعد الكلية التي يندرج تحت كل واحدة منها من المسائل الجزئية ما لا يخفى على من طالع كتبه، والتي تحصل لمن تمرس بها وأحسن رعايتها ملكة تعينه على خوض لجة هذا العلم والسباحة في بحره آمنا مطمئنا إن شاء اللَّه، وتمنع بالتالي من لم يمارسها ويتقن فقهها والتلقي لها عن أهلها الثقات من الكلام في هذا الفن.
وكونه مفتقرًا إلى الاستعانة بكثير من العلوم لا يمنع أصلاً من كونه علمًا متكاملًا قد استوى على سوقه كما تستوي أدق العلوم وأدخلها في استحقاق اسم العلم، فإن من الأمور التي قد أصبحت شبيهة بالبدهيات إن لم تكن منها بالفعل أنه لا يمنع من كون العلم علمًا قائمًا برأسه أن يستعين على مسائله بكثير من المسلمات في علوم أخرى وأن الواقع الذي لا تصلح المماراة فيه أن بعض العلوم يأخذ من بعض.
كما أن كونه بيانًا لألفاظ القرآن ومعانيه لا يمنع بحال من عده علمًا قائمًا بذاته، كما أن علم اللغة وفقهها لا يخرج عن كونه بيانًا لمعاني ألفاظها واشتقاقاتها وما إلى هذا، ثم لم يمنع ذلك من عده علمًا، فالحق الذي ترتاح إليه النفس ويطمئن إليه القلب إذن أن التفسير علم بأكمل وأدق وأجل ما تنطوي عليه مثل هذه الكلمة الشريفة من معنى، وأنه كذلك من أشرف العلوم وأعظمها على الإطلاق.


الصفحة التالية
Icon