في الآخرة كما كانت تنفعهم في الدنيا، فلما ألقوا فيها، أيقنوا أن أيمانهم لا تدفع عنهم العذاب؛ ففزعوا إلى الاعتراف والصدق؛ رجاء أن يتخلصوا من العذاب، فقالوا: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ... (٩) ينذرنا عن لقاء هذا اليوم، (فَكَذَّبْنَا) بالذي كان ينذرنا النذر، وقلنا: (مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ) مما تنذروننا به.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
فجائز أن يكون القائل لهم بهذا هم الخزنة، أو هذا خطاب في الدنيا (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (١٠).
ففي قوله: (بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ) اعتراف منهم بأنهم قد سمعوا وعقلوا، فقوله: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ)، ليس هو على نفي السمع والعقل؛ إذ قد أقروا أنهم سمعوا وعقلوا، وإنَّمَا هو على نفي الانتفاع بما سمعوا وعقلوا؛ لأن الانتفاع بالمسموع هو الإجابة لما سمع، والانتفاع بالعقل أن يقوم بوفاء ما عقل، وهم لم يجيبوا لما سمعوا، ولم يقوموا بوفاء ما عقلوا.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ): في الدنيا كما نسمع الآن، أو كنا نعقل كما نعقل الآن (مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ).
وهذا غير مستقيم؛ لأن تلك الدار ليست بدار إسماع وإفهام، وإنَّمَا المعنى ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (١١).
أي: بعدا، على معنى الدعاء عليهم.
وقيل: السحق: واد في جهنم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (١٢).
يحتمل: أي: الذين يخشون عذاب ربهم والعذاب عنهم غائب، فأهل الإسلام يخشون عذاب اللَّه وهو غائب عنهم، والكفرة لا يخشونه إلا أن يعاينوه.
وجائز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) أي: يخشون اللَّه - تعالى - أن يعذبهم.