حجج مذهب الحق قبل أن يبين له فساد ما هو فيه؛ فإن ذلك لا ينجع فيه، ولا يدعوه إلى قبول الحق والتزامه، بل يبين له قبح ما هو فيه وفساد ما اعتقده، فإذا بأن له ذلك يحتاج إلى أن يسأله عن سبيل الهدى فيه؛ ليعرفه بالتعلم.
ثم الأصل أن الدنيا هي سبيل الآخرة، والضلال سبيل يفضي بمن سلكه إلى العذاب الدائم، والهدى سبيل يفضي إلى الثواب الدائم، فالنذارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الضلال، والبشارة هي تبيين ما ينتهي إليه عاقبة من يلزم الهدى.
وإن شئت قلت: إن النذارة هي أن يبين عسر ما يحل به في العاقبة، والبشارة هي أن يثبته بما يصير إليه في العاقبة من اليسر.
ثم في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) دلالة أن حجة الإسلام تلزم الخلق قبل أن يأتيهم النذير؛ لأنه لو كانت لا تلزمهم، لكانوا في أمن من نزول العذاب قبل أن يأتيهم النذير؛ فلا يخوفون بنزل العذاب بهم قبل أن ينذروا، فلما خوفوا بنزول العذاب بهم قبل أن يأتيهم النذير دل أن الحجة لازمة عليهم، وأن لله تعالى أن يعذبهم لتركهم التوحيد وإن لم يرسل إليهم الرسل، فيكون تأويل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا)، على عذاب الاستئصال في الدنيا ليس على عذاب الآخرة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٢).
أي: مبين بما يقع به الإنذار والتخويف؛ فيكون الإبانة منصرفة إلى النذارة.
ويحتمل أن يكون هذا الوصف راجعا إلى نفسه خاصة؛ كأنه قال: نذير لكم مبين، أي: إني لم أقم في دعائي إياكم إلى عبادة اللَّه تعالى وإنذاركم من عند نفسي، ولكن بما اختصني اللَّه تعالى وولاني ذلك.
ثم الأصل في الإنذار أن يقتضي نهيا وفي النهي أن يقتضي أمرا، لكن الإنذار يقتضي نهيا وَكِيدا، والنهي الوكيد يقتضي الأمر بالخلاف أمرا وكيدا.
وأما البشارة فهي تقتضي الأمر الوكيد وغير الوكيد؛ لأنه يستوجب البشارة بكل خير يفعله، وإن كان للمرء ترك ذلك الخير بخير آخر يأتي به، فلا يفهم بنفس البشارة الأمر الوكيد؛ ويفهم بتصريح النذارة كلا الوجهين اللذين ذكرناهما.
وإذا كان كذلك، فمطلق البشارة لا يدل على تحقيق النذارة، وأما النذارة فهي تدل على