لا محالة، فلو علموا بوقوعه لا محالة، لارتدعوا عنه.
* * *
قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (٥) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا. وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (٧) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (٨) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (٩) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (١٠) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (١١) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (١٢) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (١٤) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (١٥) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (١٦) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (١٧) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (١٨) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (١٩) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (٢٠).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا).
يحتمل أن يكون هذا من نوح - عليه السلام - بعد أن أخبر (أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ)، فيكون القول منه قول معتذر: أنه لم يقصر في دعوة قومه إلى الإسلام، وأنه قد دعاهم إلى الإسلام في كل وقت وحال، وأنه قد أبلى عذره في ذلك، وإنما جاء التفريط والتعدي من جهة قومه.
ويحتمل أن يكون هذا منه على الإشفاق والرحمة والتعرض؛ لاستنزال اللين والرحمة، لعل اللَّه تعالى بلطفه يلين قلوبهم فينقادوا للحق، ويرغبوا في الإجابة؛ ليتخلصوا من العذاب ويستوجبوا المغفرة من ربهم، فهو يخرج على أحد هذين الوجهين: إن كان قبل الإخبار، فهو على التعرض منه؛ لاستنزال اللين والرحمة، وإن كان بعده فهو على إبلاء العذر، لا على الدعاء والرجاء بأن يلين قلوبهم بلطفه فينقادوا للحق؛ إذ لا يجوز أن يخبر اللَّه تعالى أنهم لا يؤمنون، وهو يطمع منهم أن يؤمنوا.
ثم قوله: (إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا)، أي: دعوت في كل وقت وكل ساعة من الليل والنهار أمكنني فيه الدعاء.
وقوله -. عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (٦).
وأصل هذا أن عداوتهم كانت قد اشتدت لنوح عليه السلام، وكانوا قد استثقلوه وأبغضوا كلامه، فحدث لهم ببغضهم كلامه واستثقالهم إياه معنى حملهم على الفرار؛ فنسب ذلك إلى الدعاء، لأن حدوث ذلك المعنى كان عند وجود الدعاء؛ فنسب إلى الدعاء على معنى المجاورة والقرب، لا أن يكون الدعاء في الحقيقة سببا لزيادة الفرار؛